وأيست من نفسي وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا يوماً حضرت وقت العصر في سوق الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه علي فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار لي على ظهر القلب. وفرحت بذلك وتصدقت بشيء على الفقراء شكرا لله تعالى. فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم معي أنضج وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء. ثم مات والدي وتصرفت بي لأحوال وتقلدت شيئا من أعملا السلطان. ودعتني الضرورة إلى الارتحال من بخارى والانتقال عنها إلى جرجان. وكان قصدي الأمير قابوس.. فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسه وموته. ثم مضيت إلى دهستان ومرضت بها مرضا صعبا وعدت إلى جرجان (اه) . قال أبو عبيد الجوزجاني: وصنف ابن سينا بجرجان أول القانون ومختصر المجسطي وغير ذلك. ثم انتقل إلى الري واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة. ثم خرج إلى قزوين ومنها إلى همذان فاتصل بخدمة كربانويه وتولى النظر في أسبابها. ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها ثم اتفق تشويش العسكر عليه واشفاقهم منه على أنفسهم. فكبسوا داره وأخذوه إلى الحبس وأخذوا جميع ما كان يملكه. وساموا الأمير شمس الدولة قتله. فامتنع منه وعدل إلى نفيه عن الدولة طلبا لمرضاتهم. فتوارى الشيخ في دار بعض أصدقائه أربعين يوما فعاد الأمير طلبه وقلده الوزارة ثانيا. ولما توفي شمس الدولة وبويع ابنه طلبوا أن يستوزر الشيخ فأبى عليهم وتوارى في دار أبي غالب العطار. وهناك أتي على جميع الطبيعيات والإلهيات ما خلا كتابي الحيوان والنبات من كتاب الشفاء وكاتب علاء الدولة سرا يطلب المسير إليه فاتهمه تاج الملك بمكاتبته وأنكر عليه ذلك. وحث في طلبه فدل عليه بعض أعدائه فأخذوه وأدوه إلى قلعة يقال لها بردوان وأنشأ هناك قصيدة منها:

دخولي باليقين كما تراه ... وكل الشك في أمر الخروج

وبقي فيها أربعة أشهر ثم أخرجوه وحملوه إلى همذان. ثم خرج منها متنكرا وأنا وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية. إلى أن وصلنا إلى أصفهان فصادف في مجلس علاء الدولة الإكرام والإعزاز الذي يستحقه مثله وصنف هناك كتبا كثيرة. وكان سبب موته قولنج عرض له. وكان ينتكس ويبرأ كل وقت ثم قصد علاء الدولة همذان وسار معه الشيخ. فعاودته في الطريق تلك العلة إلى أن وصل إلى همذان. وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض. فأهمل مداواته لنفسه وأخذ يقول المدبر الذي كان يدبرني قد عجز عن التدبير. والآن فلا تنفع المعالجة وبقي على هذا أياما ثم انتقل إلى جوار ربه ودفه بهمذان. وفيه قال بعضهم:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015