من هذه المعاني الكريمة الشريفة العظيمة: أن محبة الآباء والأبناء والإخوة والزوجات محبة طبيعية فطرية.
فالكافر يحب ابنه، وكذلك المؤمن يحب أباه ويحب ابنه ويحب زوجته، فهذه محبة طبيعية فطرية يقرها شرع الإسلام، ولكن الإسلام يهذبها، ولا يجيز لهذه المحبة الفطرية أو الطبيعية أن تزداد؛ فتكون هذه المحبة أكثر من حب المؤمن لله عز وجل أو لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو للجهاد في سبيل الله، وإنما كان كذلك حتى يتحقق البذل وتتحقق التضحية، وحتى لا يعز المؤمن شيئاً على الله عز وجل، وحتى يبذل المؤمن كل شيء من أجل أن تعلو راية الله عز وجل، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فالله عز وجل تهدد كل من يحب أباه أو ابنه أو أخاه أو زوجته أو ماله أو تجارته أو داره أكثر من حبه لله عز وجل، أو لرسوله صلى الله عليه وسلم أو للجهاد في سبيل الله، تهدده بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وفسّقهم في نهاية الآية بقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فهذه بديهية من بديهيات الإسلام صارت اليوم -لغربة الإسلام- من الغرائب، بل صار المسلمون يضحون بدينهم من أجل أن تسلم لهم دنياهم، ويبخلون بالبذل في سبيل الله عز وجل، ولم يكن السلف كذلك، بل كان الواحد منهم يرحب بأن يندق عنقه ولا يُسلم دينه، كما أسرت قريش خبيب بن عدي وعذّبوه عذاباً شديداً، وقالوا: أتود أن محمداً مكانك، وأنك معافى في أهلك ومالك؟ فقال: والله ما أحب أنني معافى في أهل ومالي ويُشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة.
وفي ذلك قيل: أسرت قريشاً مسلماً فمضى بلا وجل إلى السياف سألوه: هل يرضيك أنك سالم ولك النبي فدى من الإتلاف؟ فأجاب: كلا لا سلمت من الردى ويُصاب أنف محمد برعاف ولما أرادوا قتله أنشأ يقول: ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي ما دام في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع مات يوم أحد زوج امرأة وأبوها وأخوها، فقالت: كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: هو على خير ما تحبين، قالت: دعوني أنظر إليه، فلما نظرت إليه قالت: كل مصيبة دونك جلل يا رسول الله! فهي لا تبالي إذا مات زوجها وأبوها وأخوها ما دام قد سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يفدون الإسلام ورسول الإسلام بآبائهم وأمهاتهم وأبنائهم.
فهذه الروح هي التي ارتفع بها الإسلام، وعلا بها دين الملك العلّام، ولكن المسلمين اليوم عباد الله يبخلون بالبذل في سبيل الله عز وجل، ولا يبالي الواحد منهم إذا سلم في نفسه وماله وأهله صارت الدولة للإسلام أو لأعداء الملك العلّام، وصار الناس يتحاكمون إلى شرع الرحمن أو إلى الطواغيت اللئام، فينبغي على العبد أن يفدي دين الإسلام بنفسه، فالله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فينبغي أن يكون حب المؤمن لله عز وجل أكثر من حبه للآباء والأبناء والإخوة والزوجات.
من هذه المعاني الإيمانية الكريمة العظيمة: أن نعتقد أن النصر قادم، وأن جولة الإسلام قادمة، ولا بد كما قال الله عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
كان الصحابة رضي الله عنهم يعذّبون في ربوع مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم يبشرهم بالنصر والتمكين، ويقول: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) وفي رواية: (والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)، ونزل قول الله عز وجل: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] وتحقق هذا الوعد الصادق في أول لقاء بين الكفر والإيمان في يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، فهزم جمع الكفر وولوا الدبر.
وكان عند الصحابة ثقة بنصر الله عز وجل، حتى كان المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتّهمون الصحابة الصادقين بالغرور، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49] فمن ثقة الصحابة بنصر الله ووعده كانوا يتهمونه بالغرور، وكان خالد بن الوليد يقول للروم وقد تحصّنوا بالحصون: أيها الروم انزلوا إلينا فوالله لو كنتم معلّقين في السحاب لرفعنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا.
فينبغي للمسلمين أن يكونوا