أنه تعالى ابتدأ إنزاله في {لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 1، ووصف هذه الليلة بأنها {لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وهي إحدى ليالي رمضان، كما في قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 2، ثم استمر نزوله نجوما بعد ذلك، متدرجا مع الوقائع والأحداث.
ولسنا نميل إلى الرأي القائل: إن للقرآن تنزلات ثلاثة: الأولى إلى اللوح المحفوظ، والثاني إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والثالث تفريقه منجما بحسب الحوادث، وإن كانت أسانيد هذا الرأي كلها صحيحة3، لأن هذه التنزلات المذكورة من عالم الغيب الذي لا يؤخذ فيه إلا بما تواتر يقينا في الكتاب والسنة، فصحة الأسانيد في هذا القول لا تكفي وحدها لوجوب اعتقاده، فكيف وقد نطق القرآن بخلافه؟! إن كتاب الله لم يصرح إلا بتفريق الوحي وتنجيمه، ومنه يفهم بوضوح أن هذا التدرج كان مثار اعتراض المشركين الذين ألفوا أن تلقى القصيدة جملة واحدة، وسمع بعضهم من اليهود أن التوراة نزلت جملة واحدة، فأخذوا يتساءلون عن نزول القرآن نجوما، وودوا لو ينزل كله مرة واحدة، وقد ذكر الله اعتراضهم في سورة الفرقان ورد عليه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 4.
على أن القائلين بتنزيلات القرآن الثلاثة لا يفوتهم -بعد بيان حكمه هذا