الرجل أعلن من فوره إسلامه.
أما إنه لا يبت في أخبار الغيب إلا مجازف يعبث أو مؤمن ذو يقين، وما عرف الناس في رسول الله مخايل المجازفين، ولا ملامح المفترين، فلا بد أن يكون من الموقنين الصادقين.
بيد أن طائفة من العرب افترضوا أن يكون أحد من البشر قد علم النبي القرآن، فالتمسوا مصدر الوحي خارج الذات المحمدية، ولم يجرءوا -وهم الأميون- على دعوى تعلمه من أحد منهم، فقد أدركوا بالفطرة أن الجاهل لا يعلم الناس شيئا، وإذا هم يهتدون إلى معلم لمحمد، فمن كان ذاك المعلم الكبير، والمرجع العلمي الخطير؟ غلامًا روميًا أعجميا نصرانيًا يشتغل في مكة قينا "حدادا" يصنع السيوف، وكان -على عاميته- ملما بالقراءة والكتابة ولو لم يعلم الكتاب إلا أماني، وربما بدا للنبي أحيانا أن يقف عليه يشاهد صنعته، فما أنسبها فرصة ليقول العرب الأميون: هذا هو معلمه "إنما يعلمه بشر" وما أنسبها فرصة ليرد القرآن على أحلامهم الطائشة هذا الرد البديهي المتوقع، والمؤثر المقنع: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1.
فلما أسقط في أيديهم، ووجدوا أن لا قبل لهم بتعيين معلم محمد، آثروا أن يرفعوا دعواهم ضد مجهول، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2.وبهذا رسم العرب الأميون المنهج لمن بعدهم من ملاحدة المثقفين لينطلقوا من دعواهم هذه إلى محاولة تعيين الذي أملى على محمد حقائق الدين وفلسفة التاريخ: فرأى قوم أنه راهب اسمه بحيرا من أتباع آريوس في التوحيد لقيه النبي في طفولته في سوق بصرى بالشام خلال رحلته مع عمه أبي طالب، ورأى آخرون أنه ورقة بن نوفل من