ويحرص على أن يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد في إنزالها من نفسه في أفضل منازلها، ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها.

وقد جعلت العرب منه هاء التنبيه وأداة الاستفتاح، فأي غرابة في أن يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الإعجاز في البلاغة وحسن البيان، ويجب أن يكون الإمام المقتدى، كما أنه هو الإمام في الإصلاح والهدى؟ ومنه ما يقع في أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صحية التخويف والزجر، أو غنة الاسترحام والعطف، أو رنة النعي وإثارة الحزن، أو نغمة التشويق والشجو، أو هيعة الاستصراخ عند الفزع، أو صخب التهويش وقت الجدل. ومنه الاستعانة بالإشارات وتصوير المعاني بالحركات، ومنه كتابة بعض الكلمات أو الجمل بحروف كبيرة أو وضع خط فوقها أو تحتها..إلخ"1.

وإن انطباق هذه الحكمة على الواقع النفسي لمن كان القرآن موجها إليهم حين نزول الوحي، لا يزيدنا إلا استمساكا بهذا الرأي. ولأمر ما افتتحت جميع السور التي في أولها حروف مقطعة بذكر الكتاب أو معان تتعلق بالوحي والنبوة2. ومن المعلوم أن هذه السور كلها مكية إلا البقرة وآل عمران. فأما المكية فلدعوة المشركين إلى إثبات النبوة والوحي، وأما الزهراوان المدنيتان فلمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن3. وكانت تلك الفواتح كفيلة بتنبيه هؤلاء وأولئك إلى ما كان يلقى عليهم حتى لا يفوتهم شيء.

وما تنفك هذه الفواتح من عوامل الاستغراب، ولا يخلق الاستغراب إلا الاهتمام، ولا يثير الاهتمام إلا التنبيه، ولن ينبه الناس ويقرع أسماعهم صوت أحل وقعا من هذه الحروف المقطعة الأزلية التي همستها السماء في أذن الأرض!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015