ما دمنا نرمي إلى تحديد ما نزل بمكة أو بالمدينة ابتداء ووسطا وختاما، فإن هذه الأطوار المتعاقبة تفرض أن يكون اختيار الترتيب الزمني أمرا بديهيا لا مجال للتردد فيه، أما تعيين الأشخاص واستخراج الموضوعات فأمران ثانويان يقعان موقعهما المناسب من الترتيب الزمني المترادف ترادف الوقائع والأحداث.
وبهذا المنهج التاريخي الزمني, الذي لا يتغاضى عن الآفاق النفسية والأطوار الاجتماعية، ولا يتجاهل أثر البيئة في الحياة والأحياء, أخذ المحققون من علمائنا وشددوا في مأخذهم به حتى منعوا الجاهل بمراحل الدعوة الإسلامية أن يتصدى لكتاب الله مفسرًا لآياته أو خائضا فيه، قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري1: "من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا وانتهاء وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي"2.
ويعنينا من قول أبي القاسم النيسابوري هنا أنه التفت التفاتة صريحة إلى تقسيم القرآن كله إلى ست مراحل زمنية: ثلاث في مكة بداية وتوسطا وختاما، وثلاث بعدها في المدينة بداية وتوسطا وختاما. فما جنح إليه بعض المستشرقين من ترتيب القرآن على أسباب النزول, وتقسيمه إلى مراحل ست أو أربع3 -كما سنرى بعد قليل- لا ضرر فيه لذاته، إذا أباح الخوض في مثله علماؤنا الأعلام, وإنما يتجسد الضرر فيه حين يتجافى هذا الترتيب على الروايات الصحيحة ويأخذ بالرأي المرتجل الفطير.
ولو أتممنا عبارة أبي القاسم النيسابوري لألفيناه فيها -بعد التزامه المنهج التاريخي الزمني- لا يلبث أن يلحق بهذا المنهج نفسه جزئيات تبدو في نظرنا