ولقد يعتز دارس الأدب بثروته اللغوية وحفظه الشواهد الكثيرة من لسان العرب، ويفتخر بتمرسه بالدراسة الأدبية وتذوقه أساليب البلغاء, حتى إذا عرضت عليه قصيدة من عيون الشعر ليحدد الغرض الذي قيلت فيه، والجو الذي نظمت خلاله، تلعثم وتردد، ثم كبا وتعثر، فزعم أن القصيدة مديح وهي هجاء، أو غزل وهي عتاب, أو دعوة إلى السلم مع أنها تحريض على القتال, أو بها نفس ملحمي وإن أبياتها لتبشر بالسلام.

يقرأ الدارس المتذوق مثلا قول سعد بن مالك:

يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا

والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في الـ ... ـنجدات والفرس الوقاح1

فيؤنس في ألفاظ المقطعة يسرا وسهولة, فليس فيها ما يحفزه إلى استفتاء معجم، وإنه ليكاد يستعجل شرح الأبيات وتحليلها إذ يلفت نظره في أولها لفظ "أراهط" فيراه محتملا الرفع على الفاعلية, أو النصب على المفعولية, فهل الأراهط وضعوا الحرب واعتزلوها وآثروا السلامة بعيدا عن ساحات القتال؟ أم الحرب وضعت أولائك الأراهط، وحطتهم، وأذلتهم، حتى استسلموا للعدو وركنوا إلى الدعة والسكون؟ وهل في مطلع المقطعة إذن تأريث لنار الحرب وتهكم بالذين قعدوا عنها وجانبوها؟ فيا بؤس لها، ويا حسرة فيها على القاعدين؟! أفي مطلعها تقبيح للحرب التي تذل الكبرياء، وتخفض الهام؟ فيا بؤسها ما أشده! ويا لسعيرها ما أنكاه! وما أجدرها أن يستبدل بها السلام!.

إن حيرة الدارس لا تطول إذا استطاع أن يتقصى الظروف التي نظم فيها سعد بن مالك "حماسيته" هذه، فلسوف يرى في غضون الروايات والأخبار أن سعدا "يعرض هنا بالحارث بن عباد الذي عرف باعتزال الحرب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015