وأمده الله بِكَثْرَة الْكتب، وَسُرْعَة الْحِفْظ، وَقُوَّة الْإِدْرَاك، والفهم، وبطء النسْيَان حَتَّى قَالَ غير وَاحِد إِنَّه لم يكن يحفظ شَيْئا فينساه.
ثمَّ توفّي وَالِده وَكَانَ عمره إِحْدَى وَعشْرين سنة، فَقَامَ بوظائفه بعده، فدرَّس بدار الحَدِيث السكرية أول سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ، ثمَّ جلس عقب ذَلِك مَكَان وَالِده بالجامع لتفسير القرءان الْعَظِيم، وَكَانَ يُورد من حفظه فِي الْمجْلس نَحْو كراسين أَو أَكثر.
وَشرع الشَّيْخ فِي الْجمع، والتصنيف من دون الْعشْرين، وَلم يزل فِي علو وازدياد من الْعلم وَالْقدر إِلَى آخر عمره.
نشأته:
وَقد كَانَ مُنْذُ صغره ناشئاً على الطَّاعَة، والبصيرة فِي دينه، والبعد عَن الْمُحرمَات واسمع لَهُ يَحْكِي قَائِلا: “وَكنت فِي أَوَائِل عمري حضرت مَعَ جمَاعَة من أهل الزّهْد، وَالْعِبَادَة والإرادة فَكَانُوا من خِيَار أهل هَذِه الطَّبَقَة، فبتنا بمَكَان وَأَرَادُوا أَن يقيموا سَمَاعا، وَأَن أحضر مَعَهم فامتنعت من ذَلِك، فَجعلُوا لي مَكَانا مُنْفَردا قعدت فِيهِ، فَلَمَّا سمعُوا، وَحصل الوجد وَالْحَال صَار الشَّيْخ الْكَبِير يَهْتِف بِي فِي حَال وجده وَيَقُول: يَا فلَان قد جَاءَك نصيب عَظِيم تعال خُذ نصيبك، فَقلت فِي نَفسِي، ثمَّ أظهرته لَهُم لما اجْتَمَعنَا: - أَنْتُم فِي حل من هَذَا النَّصِيب، فَكل نصيب لَا يَأْتِي عَن طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الله فَإِنِّي لَا آكل مِنْهُ شَيْئا، وَتبين لبَعض من كَانَ فيهم مِمَّن لَهُ معرفَة وَعلم أَنه كَانَ مَعَهم الشَّيَاطِين”1.
وَقد كَانَت نشأته رَحمَه الله فِي تصونٍ تَامّ، وعفاف، وَتعبد، واقتصاد فِي الملبس والمأكل، فَنَشَأَ على جَانب كَبِير من الْخَوْف من الله تَعَالَى، زاهداً، ورِعاً، ملازماً لِلْعِبَادَةِ وتلاوة القرءان الْكَرِيم، وَكَانَ قد قطع جلّ وقته وزمانه فِي عبَادَة الله، وَلم تشغله شاغلة عَن عبَادَة ربه وَكَانَت بضاعته طوال عمره الْعلم ونصرة السّنة.