بسوس وداحس والغبراء، وما يوم الفجار ببعيد. ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية، ويقول لهم: {كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعية إلى ذلك وقوتها، وذلك غاية ما روي في التاريخ من الطاعة والخضوع، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان وبلغ السيل الزبى أذن الله لرسوله ولأصحابه بالهجرة: وهاجروا إلى يثرب وقد سبقهم إليها الإسلام.
في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم:
والتقى أهل مكة بأهل يثرب. لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد. فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ. وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث. ولا تزال سيوفهم تقطر دماً. فألَّف الإسلام بين قلوبهم. ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم. ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين. فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء. وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء.
كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده. وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها. لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} .
انحلت العقدة الكبرى:
ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يربيهم تربية دقيقة عميقة. ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم. ولم تزل مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم تزيدهم
رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات، وتفانياً في سبيل المرضاة، وحنيناً إلى الجنة، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس. يطيعون الرسل في المنشط والمكره. وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً. قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين. وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة. فهان عليهم