هانت عليه نفسه، وعزم على أن يقتحم لأجله النيران، وتمشي إليه ولو على حسك السعدان، فتقدم فتية من قريش لا يستخفهم طيش الشباب، ولا يستهويهم مطمع من مطامع الدنيا، إنما همهم الآخرة وبغيتهم الجنة، سمعوا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فضاقت عليهم الحياة الجاهلية بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وقلقت بهم مضاجعهم، فكأنهم على الحسك، ورأوا أنهم لا يسعهم إلا الإيمان بالله ورسوله فآمنوا وتقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بلدهم وبين سمعهم وبصرهم فكانت رحلة طويلة شاقة لما أقامت قريش بينه وبين قومه من عقبات، ووضعوا أيديهم في يديه، وأسلموا أنفسهم وأرواحهم إليه، وهم من حياتهم على خطر، ومن البلاء والمحنة على يقين، سمعوا القرآن بقول: {الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} وسمعوا قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} فما كان من قريش إلا ما توقعوه، وقد نثرت كنانتها، وأطلقت عليهم كل سهم من سهامها، فما زادهم كل هذا إلا ثقة وتجلداً، وقالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} ولم يزدهم هذا البلاء والاضطهاد في الدين إلا متانة في عقيدتهم وحمية لدينهم ومقتاً للكفر وأهله، وإشعالاً لعاطفتهم وتمحيصاً لنفوسهم فأصبحوا كالتبر المسبوك واللجين الصافي، وخرجوا من كل محنة وبلاء خروج السيف بعد الجلاء.
التربية الدينية:
هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يغذِّي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب وخضوع جسم وحضور عقل، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحرراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات، ويأخذهم بالصبر على
الأذى والصفح الجميل وقهر النفس، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف، وهم من أمة، من أيامها حرب