شقاء الجمهور:
وهكذا أصبح أهل البلاد في كلتا المملكتين طبقتين متميزتين تمام التمييز: طبقة الملوك والأمراء ورجال البلاط الملكي وأسرهم وعشائرهم والمتصلون بهم والأغنياء، فكانوا يعيشون بين الأزهار والرياحين ويتقلبون في أعطاف النعيم، وينعلون أفراسهم عسجداً، ويكسون بيوتهم حريراً وسندساً.
وطبقة الفلاحين والصناع والتجار الصغار وأهل الحرف والأشغال، كانوا في جهد من العيش يرزخون تحت أثقال الحياة والضرائب والإتاوات ويرسفون في القيود والأغلال ويعيشون عيش البهائم، لا حظ لهم في الحياة إلا العمل لغيرهم والشقاء لنعيمهم ولا همَّ لهم إلا الأكل والعلف، فإذا سئموا هذا العيش المر تعللوا بالمسكرات والملهيات، وإذا تنفسوا من هذا العناء رتعوا في المحرمات، ورغم هذا الجهد في لمعيشة يجهدون أنفسهم في تقليد رجال الطبقة العليا في كثير من أساليب حياتهم، فكان ذلك أشد من الجهد في سبيل الكفاف من الرزق والبلغة من العيش، فتنغص حياتهم، ويتكدر صفوهم ويشتغل بالهم.
بين غنى مطغ وفقر منس:
وهكذا ضاعت رسالة الأنبياء، والأخلاق الفاضلة والمبادئ السامية في العالم المتمدن المعمور بين غنى مطغ وفقر منس، وأصبح لغني في شغل عن الدين والاهتمام بالآخرة والتفكير في الموت وما بعده بنعيمه وترفه، وأصبح الفلاح أو العامل في شغل عن الدين كذلك لهمومه وأحزانه وتكاليف حياته، وأصبحت الحياة ومطالبها همَّ الغني والفقير وشغلهما الشاغل، وكانت رحى الحياة تدور حول الناس في قوة لا يرفعون فيها إلى الدين والآخرة رأساً، ولا يتفرغون لما يتصل بالروح والقلب والمعاني السامية ساعة.
تصوير الجاهلية:
وقد صور أحد كبار علماء الإسلام (?) هذه الحال فأجاد التصوير، قال: