البلاد كالهند والصين وتركستان إلا أحياء ضيقة وحارات صغيرة، ونقطاً مغمورة في هذا العالم، وليست هذه الأرض كلها - إذا نظر إليها من ارتقى إلى قمة هذه السيادة - إلا خريطة صغيرة ملونة يراها الطائر المحلق في السماء، وليست الأمم الكبيرة - مع ثقافتها وحضاراتها وآدابها - إلا أسراً صغيرة في أمة كبيرة.

لقد قام العالم الكبيرة على أساس العقيدة الواحدة، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ وكانت الشعوب التي تكون هذا العالم أقوى أسرة عرفها التاريخ، تنصهر فيها الثقافات المختلفة، والعبقريات المختلفة، فتكون منها ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية، التي لم تزل تظهر في نوابغ الإسلام الذين لا يحصيهم عدد وفي المآثر الإسلامية - بين علمية وعملية - التي لا يستقصيها التاريخ.

لقد كانت - ولا تزال - قيادة هذا العالم بجدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها وأقواها في تاريخ الزعامة والقيادة، وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الإسلامية وتفانوا في سبيلها، فأحبهم الناس في العالم حباً لم يعرف له نظير، وقلدوهم في كل شيء تقليداً لم يعرف له نظير، وخضعت للغتهم اللغات، ولثقافتهم الثقافات، ولحضارتهم الحضارات، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى قصاه، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم، ويتقنونها كأبنائها وأحسن، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقادهم.

وكانت حضارتهم هي الحضارة المثلي التي يتمجد الناس ويتظرفون بتقليدها، ويحث علماء الدين على تفضيلها على الحضارات الأخرى ويطلقون على كل ما يخالفها من الحضارات - اسم ((الجاهلية)) و ((العجمية)) وينهون عن اتخاذ شعائرها ومظاهرها.

وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة والناس لا يفكرون في ثورة عليها، وفي التخلص منها، كما هي عادة المفتوحين والأمم المغلوبة على أمرها في كل عهد، لأن صلتهم بهذه القيادة ليست صلة المفتوح بالفاتح أو المحكوم بالحاكم أو الرقيق بالسيد القاهر، إنما هي صلة المتدين بالمتدين، وصلة المؤمن بالمؤمن، وعلى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015