إذاً يحسن بنا أن نتعرف بالحضارة اليونانية والرومية أولاً وأن نعرف طبائعهما وروحهما، حتى نكون على بصيرة في انتقاد الحضارة الغربية والحكم عليها في القرن العشرين
خصائص الحضارة الإغريقية:
اليونان أمة موهوبة، من أنجب أمم العالم وأذكاها وأكثرها استعداداً للعلم والأدب، ومن أخصبها أذهاناً وعقولاً، وقد مثلت في العالم دوراً خالداً بفلسفتها وأدبها ووفرة من نبغ فيها من العلماء والحكماء والعبقريين تزهو بآثارهم مكتبات العالم.
والذي يعنينا الآن هو أن نعرف طبيعة الحضارة التي أنشأوها، فإذا نظرنا فيها نظرة تحليل وانتقاد وصرفنا النظر عما تشترك فيه مع الحضارات من مظاهر وظواهر وبحثنا عن طبيعتها وخصائصها وجدنا من المزايا التي تمتاز بها عن المدنيات الأخرى - خصوصاً المدنيات الشرقية - ما يلي:
(1) الإيمان بالمحسوس وقلة التقدير لما لا يقع تحت الحس.
(2) قلة الدين والخشوع.
(3) شدة الاعتداد بالحياة والاهتمام الزائد بمنافعها ولذائذها.
(4) النزعة الوطنية.
ويمكن أن نحصر هذه المظاهر المتشتتة في كلمة مفردة هي ((المادية)) فكانت الحضارة اليونانية شعارها ((المادية)) وهي التي ينم بها كل ما يتصل باليونان من ثقافة وعلم وفلسفة وشعر ودين، فلم يستطيعوا أن يتصوروا صفات الله وقدرته إلا في شكل آلهة نحتوا لها تماثيل وبنوا لها معابد وهياكل، فللرزق إله وللرحمة إله، وللقهر إله، ثم نسبوا إليها كل ما يختص بالجسم المادية ونسجوا حولها من أساطير وخرافات، وصوروا المعاني المجردة وتصوروها في أجسام وأشكال؛ فللحب إله وللجمال إله، وليس نظام العقول العشرة والأفلاك التسعة في فلسفة أرسطاطاليس إلا رشحه من رشحات هذه المادية التي تتخلى عنها الطبيعة اليونانية.
وقد سلم العلماء الأوربيون بغلبة المادية في الحضارة اليونانية، ونوهوا بها في كتبهم وبحوثهم العلمية، وقد ألقى العالم الألماني الدكتور ((هاس)) (Haas) ثلاث