الباب الرابع
العصر الأوربي
الفصل الأول
أوربا المادية
طبيعة الحضارة الغربية وتاريخها:
قبل أن ننظر ماذا أثّر تحول القيادة من الأمم الإسلامية إلى الأمم الأوربية في عقلية العالم وأخلاق الشعوب والأمم والمدنية والاجتماع واتجاهات الإنسانية وميولها، وماذا جنى منه النوع الإنساني، وهل كان ربحه أكثر من خسارته ورزئه أو بالعكس؟ .. يجب علينا أن نعرف طبيعة الحضارة الغربية ووضعها وروحها وفلسفة حياة هذه الأمم وكيف نشأت؟
ليست الحضارة الغربية في القرن العشرين المسيحي وليدة هذه القرون المتأخرة التي تلت القرون المظلمة في أوربا أو حديثة كما يتوهم كثير من الناس، بل يرجع تاريخها إلى آلاف من السنين، فهي سليلة الحضارة اليونانية الحضارة الرومية قد خلفتهما في تراثهما السياسي والعقلي والمدني، وورثت عنهما كل ما خلفتا من ممتلكات ونظام سياسي وفلسفة اجتماعية، وتراث عقلي وعلمي، وانطبعت فيها ميولهما ونزعاتهما وخصائصهما. بل انحدرت إليها في الدم، فقد كانت الحضارة اليونانية أول مظهر رائع - حفظه لنا التاريخ - للعقلية الأوربية. وأول حضارة - سجلها التاريخ - قامت على أساس الفلسفة الأوربية تجلت فيها النفسية الأوربية، وعلى أنقاضها قام صرح الحضارة الرومية تحمل روحاً واحدة هي الروح الأوربية، وظلت الشعوب الأوربية طيلة قرون محتفظة بخصائصها وطبيعتها، وارثة لفلسفتها وعلومها وآدابها وأفكارها، حتى برزت بها في القرن التاسع عشر في ثوب برّاق يوهمك - بطلاوته وزهو ألوانه - أنه جديد النسج ولكن لحمته وسداه من نسج اليونان والرومان.