إن أغلب البشر فيهم خير مخبوء في كينونتهم، لكنهم يحتاجون فقط إلى من يحسن مخاطبة هذا الخير، واستخراجه وإظهاره -بإذن الله- والقليل منهم هم المجرمون الذين يبغونها عوجاً؛ تكبراً في أنفسهم، وحرصاً على امتيازاتهم التى يضمنها لهم بقاؤهم على الكفر {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31]. {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:66].
ولعل في قصة موسى عليه السلام ما يؤكد ذلك، فكل من فرعون والسحرة قد شاهدوا العصا تتحول إلى حية عظيمة، فآمن السحرة ولم يؤمن فرعون، ليظهر الفارق في سبب كفرهم واضحاً، فالسحرة قد منعهم الجهل من الإيمان بالله، لذلك عندما شاهدوا الآية العظيمة أذعنوا واستسلموا {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)} [الشعراء].
أما فرعون فكان سبب كفره هو إجرامه وكبره وحرصه على مصالحه {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56].
وعندما آمنت بلقيس -ملكة سبأ- بعد دعوة سليمان عليه السلام لها، ورؤيتها الآيات الباهرات، وكانت من قبل هي وقومها يعبدون الشمس، نجد القرآن يبين سبب كفرها: أنها نشأت بين قوم كافرين، أي كانت جاهلة بالحقيقة، لذلك عندما رأتها آمنت: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43].
* * * *
إذا كان الكثير من الناس ليسوا بمجرمين، بل وفيهم خير مخبوء لكنهم ضلوا الطريق الصحيح، فإن على أصحاب الرسالة أن يبذلوا غاية جهدهم في توصيلها إليهم وإلى غيرهم فيكونوا سببا في إنقاذهم من النار ..
وليس معنى هذا أنه ليس على هؤلاء الجاهلين مسئولية في البحث عن الطريق الصحيح، فالمسئولية مشتركة بينهم وبين أصحاب الرسالة .. عليهم أن يبحثوا عن الحق، وعلى أصحاب الرسالة أن يجتهدوا في توصيل الحق إليهم ..
ومن هنا ندرك قيمة الجهاد في الإسلام والحكمة من الحث في الكتاب والسنة، وتفضيله على كثير من الأعمال .. فجوهر الجهاد هو بذل الوسع والطاقة في سبيل الله، وإقامة دينه، وتبليغ دعوة الإسلام -دون إكراه- فيكون وسيلة لإنقاذ البشرية وإسعادها بالإسلام {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78].
إن الجهاد هو الوسيلة العظيمة لتبليغ الدعوة وتوصيلها إلى الناس جميعا، ومن خلال قيام المسلمين به يتم إنقاذ الكثرين من الضلالة والنار، ولو تأملنا الحكمة من قتال الفتح كصورة من صور الجهاد -في حالة أن تكون للاسلام شوكة وخلافة- لوجدناه وسيلة لفتح الأبواب المغلقة أمام الدعوة، فعندما يحول بين تبليغ الدعوة للناس فئة من المجرمين، يتم إنذارهم وتخويفهم وقتالهم إذا ما لزم الأمر حتى تتفتح الأبواب أمام الدعاة لعرض الأسلام على الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم يتركوا لهم الحرية في قبوله أو رفضه {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].