الطريق، فقلت في نفسي: كيف لهذه الحمامة أن تعيش وهي في هذه الحالة، وبعد لحظات جاءت حمامة أخرى حاملة بعض الطعام إلى تلك الحمامة العمياء، فقلت: لا إله إلا اللَّه! إن الذي رزق هذه الحمامة العمياء في جوف الصحراء لقادرٌ أن يرزقني بدون أن ألهث وراء الدنيا، فما إن رأيت ذلك حتى قررت أن أرجع بتجارتي لأهلي وأولادي" فنظر إليه صاحبه ووضع يده على كتفه وقال له وهو يحاوره: "سبحان اللَّه يا أخي! لم ترضى على نفسك أن تكون حمامة عرجاء تنتظر طعامها من الغير، ولا ترضى أن تكون حمامة قوية تطعم غيرها من الحمام؟!! ".
وعظيمنا الحالي هو أحد أغنى أغنياء المسلمين في التاريخ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الخمسة العظماء الذين أسلموا على يد الصدّيق (جزاك اللَّه خيرًا يا أبا بكر!)، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد البدريين، وأحد أصحاب بيعة الرضوان، صاحب الهجرتين، المصلي إلى القبلتين، إنه رمز العطاء، وقدوة الأغنياء، إنه الثري الذي كان يتصدق بلا خوف، إنه البطل العظيم عبد الرحمن بن عوف.
وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه وأرضاه لم يكن غنيًا ومؤمنًا فحسب، بل كان عبد الرحمن ابن عوف وأبو بكر الصِّديق المخلوقين الوحيدين على وجه الكون الذين صلى خلفهما رسول العالمين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي صلى خلفه جميع الأنبياء والرسل في رحلة الإسراء الشهيرة!
وعبد الرحمن بن عوف أراد أن يكون في خانة العطاء، لا في خانة الأخذ، فعندما هاجر بطلنا إلى المدينة، آخى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين الصحابي الجليل (سعد بن الربيع)، وقد قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة صفر اليدين كغيره من المهاجرين الأبطال الذين خلفوا منازلهم وأسواقهم وأموالهم خلف ظهورهم في مكة وتركوها لوجه اللَّه تعالى، فعرض عليه أخوه الأنصاري سعد بن الربيع -رضي اللَّه عنه- نصف ما يملك فاعتذر عبد الرحمن بعفاف النبلاء قائلًا: "بارك اللَّه في مالك وأهلك ولكن دلني على السوق" فانطلق -رضي اللَّه عنه- إلى سوق المدينة فباع واشترى، واشترى وباع وما هو إلا زمن قصير فإذا به يصبح من أرباب الملايين! يقول الإمام (ابن حجر العسقلاني): "خلّف عبد الرحمن بن عوف أربع زوجات فورثت كل واحدة 100000 دينار، ومعلوم إن الزوجات يشتركن في