عصير العنب والنخل؟ فإن كان الأول كان حجة على أبي حنيفة فيما قاله في الخمر مما وافق فيه غيره وأجمع عليه الناس؛ إذ لا يسوغ عند أبي حنيفة ولا عند غيره شرب الخمر التي صب فيها شيء من الماء، أما إذا بقي فيه بعد الصب النشوة المطربة فلا إشكال، وكذا إذا زالت منه لإجماعهم على أن الخمر نجس ولا يجوز شرب النجاسة بإجماع، وإنما يبقى الكَلَامُ في حد شاربه كما يأتي للزرقاني عند قوله: "لا دواء".
وقد حكى الأئمة المالكية وغيرهم الإجماع على أن الماء إذا حلت فيه نجاسة يسيرة غيرت لونه أو طعمه أنه نجس ولو كان أكثر منها بأضعاف مضاعفة؛ فكيف إذا وضع يسير من الماء في الخمر الغالبة على الماء، وإن كان الثاني كان مخالفا لما صح عن سيدنا عمر من أن الخمر عنده ما خامر العقل، كان من عنب أو غيره كما هو صريح حديثه الذي خطب به على الناس كما في البخاري وغيره، فالنبيذ عنده وعصير العنب الذي لم يطبخ سواء، فلا يستقيم للحنفية الاحتجاج على مذهبهم بهذا الأثر الذي رووه عنه كما لا يستقيم لهم الاستدلال بأثره، هذا على ما قالوه من أن ما طبخ حتى ذهب ثلثاه ليس بخمر؛ لأن هذا النوع داخل في حديثه المتفق على صحته الذي خطب به حتى صار إجماعا ومخالف أيضا لما ورد عنه فيما طبخ من العصير بخصوصه، ففي الموطإ ما نصه: مالك عن داوود بن الحصين عن واقد بن عمر بن سعيد بن معاذ أنه أخبره عن محمود بن لبيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها، وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب، فقال عمر بن الخطاب: اشربوا العسل، فقالوا: لا يصلحنا العسل، فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئا لا يسكر؟ قال: نعم فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث، فأتوا به عمر بن الخطاب فأدخل فيه عمر إصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط، فقال: هذا الطلاء هذا مثل طلاء الإبل فأمرهم عمر أن يشربوه، فقال له عبادة ابن الصامت: أحللتها واللَّه. فقال عمر: كلا واللَّه اللَّهم إني لا أحل لهم شيئا حرمته عليهم ولا أحرم عليهم شيئا أحللته لهم. انتهى. قال في المنتقى: قوله: شكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها يريد أنهم شكوا إليه من ذلك ما أحوجهم إلى شرب شراب يزيل عنهم وباء الأرض ويبعد عنهم ثقلها وأمراضها المعتادة عندهم وقد اعتادوا بشراب،