أصحاب مالك فدل على ابن القاسم فرحل إليه وكان في نفسه أن يسأله عن المسائل المدونة عنده يأخذ ما وافق منها مذهب مالك ويجمعه فيكون مصنفا صالحا فتهيأ لما أراد من عرضها على ابن القاسم، ثم رحل عنه وذهب إلى بلده بالقيروان فاجتمع بسحنون في أثناء سفره فأراه الكتاب فطلب منه أن يعيره للاستنساخ فامتنع، ثم راوده على المبيت عنده ليلة فوافقه وأسعفه فأعاره إياه ففرقه على طلبته فما أصبح الصباح إلا وقد نسخ الكتاب كله فلما علم به أسد بن الفرات غضب. ثم رحل بها سحنون إلى ابن القاسم فعرضها عليه وكان ربما أملى عليه ابن القاسم مسألة فلا يكتبها حتى يستحلفه عليها لقد صح سماعها عن مالك، فبينما هو كذلك احتاج ذات يوم إلى ماء يجعله في الدواة فأراد أن يقوم فقال له ابن القاسم رويدك فأدلى إصبعه إلى الدواة فقطر من الماء ما فيه كفاية فلم يكن يستحلفه سحنون بعد ذلك فما زال سحنون يعرضها على ابن القاسم فزاد فيها ونقص ورتب بعض مسائل وأبوابا وبقي بعضها من غير ترتيب بعد عرض الجميع عليه، ثم أرسل ابن القاسم إلى أسد بن الفرات أن اعرض مدونتك على مدونة سحنون فما أثبت فيها فأثبته وما محا منها فامحه فأنف من ذلك وأعرض عنه فدعا ابن القاسم أن لا يبارك فيها فنسيها الناس إلى اليوم. ثم مات ابن القاسم ومات سحنون رحمة الله عليهما قبل تأليف جميع الكتاب وبقي بعضه مختلطا غير مؤلف فيقال لا ألفه ودونه المدونة، ولا بقي غير مؤلف المختلطة.
أما ابن القاسم فهو الإمام الكبير الحافظ الحجة فقيه الديار المصرية أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بضم العين المهملة وفتح المثناة الفوقية وهو مولاهم المصري وهو مولى زيد بن الحارث العتقي، وفي الديباج عن محمد بن الحارث هو نسبة إلى العبيد الذين نزلوا من الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلهم أحرارا، وفي ابن خلكان نسبة إلى العتقاء وهم من قبائل شى وكانوا يقطعون على من أراد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم فأتي بهم فأعتقهم وقيل لهم العتقاء. قال الشيخ الهلالي وإنما نسب إلى لفظ الجمع لأنه أشبه الواحد في الوضع لكونه غلب على قوم بأعيانهم. ولد ابن القاسم سنة اثنين ثلاثين ومائة على خلاف فيه روى عن مالك والليث وعبد العزيز بن الماجشون ونافع بن أبي نعيم القاري وغيرهم، قال النسائي ثقة مأمون أحد العلماء لم يرو الموطأ عن مالك أثبت منه، وهو عجب من العجب في الفضل والزهد