الصلاة أم العبادات، فقد كلف الله العبد أن تستحوذ الصلاة على كل كيانه ظاهراً وباطناً، وأن تستغرق قلبه ولسانه وجوارحه، يقول تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] يعني: خاشعين مخبتين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) متفق عليه.
وهذا الحديث وتلك الآية أصل في الاستدلال في باب ما يحرم على المصلي وما يجوز له أن يفعله في الصلاة، فكل ما يتعارض مع حال المصلي الخاشع القانت فلا يجوز فعله في الصلاة، وقد تكلم العلماء عن عدد الحركات التي يجوز أن يأتي بها المصلي في الصلاة، والحد الأدنى الذي لا يبطل الصلاة، فقال بعضهم: إذا كان المصلي يتحرك في الصلاة بحيث إذا نظرت له تظن أنه لا يصلي، فهذا يتصادم تماماً مع قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً)، فلا يجوز الانشغال بما يضاد الصلاة، كما يفعل بعض الناس في بعض البلاد كأنه يجتهد في أن يبطل صلاته، أو على الأقل ينقص أجرها، تجد منهم من يفك الساعة ويركبها، وآخر يخرج النقود من جيبه ويعدها، وثالث يفك (الزراير) ويردها، هذا يحصل في بعض البلدان للأسف الشديد، فهل هذا يعد مصلياً؟ فأهم ما يستدل به في هذا الباب هو قوله تعالى: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)؛ لأن هذا يتنافى مع حال المصلي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن في الصلاة لشغلاً)، وهذا هو الدليل على أنه يحرم على المصلي أن يأكل، أو أن يشرب، أو أن يلتفت، أو أن يتحرك، بخلاف غير الصلاة من العبادات؛ لأن العبادات الأخرى قد تفرض على بعض الجوارح دون البعض الآخر، أما الصلاة فيجب أن تستحوذ على كل الكيان الظاهر والباطن، ولابد أن تستغرق القلب واللسان والجوارح، بحيث تكون كلك لله في داخل الصلاة.
مثلاً: الصائم يجوز له أن يتكلم، وأن يتحرك، وأن ينام، ويجوز للمجاهد أن يلتفت، وأن يتكلم، ويجوز للحاج أن يأكل ويشرب أثناء تلبسه بهذه العبادة، أما الصلاة ففيها ألوان العبودية الشاملة للقلب والعقل والبدن واللسان، فللسان الشهادتان، والتكبير، والتعوذ، والبسملة، وتلاوة القرآن، والتسبيح، والتحميد، والاستغفار، والأدعية.
وللجوارح قيام، وركوع، وسجود، واعتدال، وخفض، ورفع، وقعود.
وللعقل: تفكر، وتدبر، وتفهم، وتفقه.
وللقلب: خشوع، ورقة، وخوف، وطمع، والتذاذ، وضراعة، وبكاء.
يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كلٍ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فأفضل أحوال الإنسان أن يكون مصلياً صلاة كاملة، مستحوذة على كل كيانه قلباً وقالباً ظاهراً وباطناً.