الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه من بعده.
أما بعد: فنجدد العهد بموضوع هو في غاية الأهمية، وهو لا ينفصل عما نحن فيه وعما نعايشه من أحداث، ألا وهو موضوع الصلاة ومكانتها وخصائصها وآثارها على المسلمين أفراداً وأمة، وهذا من باب قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، وقد بين تعالى من ينتفع بالذكرى حين قال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
فللصلاة مكانة متميزة ينبغي أن نستصحبها في كل أحوالنا، وأن نجتهد في إصلاح صلاتنا، فإن ذلك أحد مفاتيح استحقاق نصر الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي أفضل الأعمال بعدهما؛ لكونها وضعت على أكمل وجوه العبادة وأحسنها؛ ولأنها تجمع متفرق العبودية، وتتضمن أقسامها، وهي أول ما اشترطه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التوحيد، وهي رأس العبادات البدنية، وهي دين الأمة ضرورة، ولم تخل منها شريعة مرسل، وهي فرض عين بالكتاب والسنة والإجماع، فرضها الله عز وجل ليلة المعراج على نبيه صلى الله عليه وسلم في السماء، وذلك بخلاف سائر الشرائع.
إن من خصائص الصلاة أنها فرضت على هذه الأمة ليلة المعراج في السماء، فدل ذلك على عظم حرمتها، وتأكد وجوبها على كل مسلم مكلف، ولا تسقط عنه بحال من الأحوال، ما عدا الحائض والنفساء بخلاف غيرها من الأركان.
ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة شاع في عصرنا -عصر الغربة الثانية- تهاون الناس بها، وتفريطهم في حقها، مع انهماكهم في صنوف اللهو واللعب، وتهالكهم على جيفة الدنيا وحطامها، فمن ثم تمس الحاجة إلى أن نجدد ذكرى، ونحدث عهداً، بعظيم قدرها وجسامة خطرها، ونتكلم على خصائص الصلاة وأهميتها.
نبدأ ببيان أن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، إذ يقول الله سبحانه وتعالى في المشركين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] قوله: (فإن تابوا) يعني: إن تابوا من الشرك ودخلوا في الإسلام والتزموا أحكامه أما بدون ذلك فلا أخوة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لـ معاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) إلى آخر الحديث المتفق عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل) أي: أول شيء هو توحيد الله تبارك وتعالى.
وفي لفظ لهذا الحديث: (فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله).
فقوله هنا في هذه الرواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل) أي: عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، كما في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: ليعبدوني وحدي لا يشركوا بي شيئاً، وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
قوله: (فإذا عرفوا الله) يعني: بالتوحيد.
قوله: (فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم) فالصلاة صلة بين العبد وبين الرب تبارك وتعالى، وهي صلة فريدة لا نظير لها ولا مثيل لها، لا يدركها ولا يفقهها إلا من عرف صفة العبد وصفة الرب، والصلات بين طرفين تابعة لصفات كل منهما، ونابعة منها، ولذلك لهجت الكتب السماوية بذكر الصفات قبل أن تحدد الصلات، وتدعو إلى العبادات، وتسن الفرائض وتحث على الطاعات، فمن ثم دائماً تسبق العقيدة العمل والعبادة؛ لأن العقيدة لها الأولوية المطلقة.
قوله: (فإذا هم عرفوا الله -أو وحدوا الله- فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فالأولوية للتوحيد، يليه العبادة، وفي رأس العبادة تكون الصلاة.
كذلك دعا الرسل إلى توحيد الله في أسمائه وصفاته وأفعاله، وإلى تنزيهه وتقديسه ومعرفته المعرفة الصحيحة قبل أن يدعو إلى أي شيء آخر، والقرآن الكريم نفسه أكبر شاهد على ذلك، إذ كان مفتاح دعوة جميع الرسل: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] هذا فيما يتعلق بالعلاقة بين الصفات والصلات.
فلابد لكل امرئ أن يعرف قدر نفسه، فالعبد يعرف نفسه أنه عبد ذليل ضعيف محتاج إلى الله تبارك وتعالى.
كذلك ينبغي على العبد أن يعرف ربه، فإذا عرف ربه وعرف نفسه هنا تقوم الصلة بين رب وبين عبد، بين خالق ومخلوق، بين غني وفقير وهكذا.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) متفق عليه.
قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) كلمة الشهادة لا تكون إلا على شيء قام عليه بينة ودليل حسي، والشخص لا يشهد مثلاً في محكمة أو في القضاء إلا على شيء رآه أو سمعه أو شهده وحضره، فأنت حينما تقول: لا إله إلا الله فأنت لا تقولها تقليداً، وإنما تبنيها على أدلة، وتشهد بأن هذه الأدلة تثبت لك أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
من المؤلم جداً أننا نستغرق أحياناً في بعض القضايا الفكرية أو السياسية إلى آخره، ونغفل أموراً هي في غاية الأهمية بالنسبة للمسلم، للأسف الشديد أنك قد تسأل بعض الناس، وقد يكون ملتزماً أو طالب علم: كيف تثبت مثلاً نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كيف تثبت أن القرآن معجزة؟ فلا يستطيع أن يجيب! هذه الأمور في غاية الأهمية، وهي أساسيات العقيدة التي ينبغي أن نصرف إليها جل وقتنا، وألا ننشغل عنها بغيرها.
قوله: (فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) أي: سأقبل منهم الظاهر أما ما في الباطن فهذا إلى الله تبارك وتعالى.
عن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قسم الغنائم، قال رجل: يا رسول الله! اتق الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ويلك! ألست أحق أهل الأرض أن أتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ألا أضرب عنقه يا رسول الله؟! -لأن هذه الكلمة لا تصدر إلا من منافق- فقال صلى الله عليه وسلم: لا، لعله أن يكون يصلي) متفق عليه، فالصلاة تعصم دم الشخص وماله ما دام يقيمها.
إن الصلاة مانعة وحائلة دون الخروج على أمراء الجور والظلم، حتى الأمير الجائر أو الظالم ما دام يقيم الصلاة في نفسه ويقيمها في الناس فحينئذٍ لا يجوز الخروج عليه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) رواه مسلم.
وفي حديث آخر: (قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم -أي: نقاتلهم-؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) رواه مسلم أيضاً.
هذا فيما يتعلق بكون الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين على الإطلاق.