الحفظ يدخل فيه نوعان: الأول: حفظه له في مصالح دنياه.
الثاني وهو أشرف النوعين: حفظه إياه في دينه وإيمانه.
أما الحفظ الأول: فهو حفظ الله عز وجل العبد في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] يعني: كل إنسان له معقبات -وهم ملائكة- من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر تخلوا عنه حتى يصيبه ما قدره الله له).
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا).
قوله: (واجعله الوارث منا) هذه مبالغة في حفظ الحواس لتبقى سليمة معافاة ليس فقط إلى حين الموت، لكن تبقى سليمة حتى بعد الموت، كأن صحتك وسمعك وبصرك وقوتك بعد موتك تبقى سليمة وترثك، فهذه من المبالغة في سؤال حفظ الله سبحانه وتعالى العبد من الآفات.
وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يكرره صباح مساء: (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي).
ومن حَفِظ الله عز وجل في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه في سمعه وبصره وحوله وقوته وعقله، وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته، فإذا كان العبد صالحاً محافظاً على الصلاة وعلى أوامر الله تبارك وتعالى؛ فإن الله عز وجل يحفظه في ذريته، ليس فقط في حياته، بل وبعد مماته.
فمن أراد أن يحفظ الله سبحانه وتعالى ذريته من بعده إذا خشي الموت أو غير ذلك؛ فأعظم ذخيرة يدخرها لهم هي أن يتقي الله سبحانه وتعالى في حال حياته، وذلك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فهذه هي أعظم وثيقة تأمين على الأولاد والذرية، وهي ليست المال، وليست العقارات، وليست أمور الدنيا، ولكن حفظهم بتقوى الله سبحانه، يقول عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله تعالى في عقبه وعقب عقبه.
يعني: أولاده وأولاد أولاده.
وقال ابن المنكدر رحمه الله تعالى: إن الله ليحفظ للرجل الصالح ولده وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر.
يعني: بركة الصالح تتعدى المكان وتتعدى الزمان، تتعدى الزمان حيث تمتد إلى ولده وولد ولده فيحفظون؛ لأن أباهم كان رجلاً صالحاً، وتتعدى المكان حيث تمتد إلى الدويرات التي حوله وجيرانه فما يزالون في حفظ من الله وستر ببركته.
وقال سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلى هذه الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82].
ومن عجيب حفظ الله تبارك وتعالى لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، مثال ذلك: قصة سفينة رضي الله عنه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ركب سفينة رضي الله عنه البحر فانكسر به المركب وخرج إلى جزيرة، فلما خرج إلى هذه الجزيرة رأى الأسد، فجعل ينادي الأسد بكنيته: يا أبا الحارث! أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل الأسد يمشي معه حتى دله على الطريق، فلما أوصله الأسد إلى رأس الطريق جعل يهمهم كأنه يودعه ثم رجع عنه وهذا الأثر رواه الطبراني والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
فالأسد من أعظم ما يضرب به المثل في الإهلاك، فانظر كيف حفظ الله سبحانه وتعالى هذا العبد الصالح من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الأسد الذي هو مؤذ بطبعه، والأذى كامن فيه، ومع ذلك حفظه الله عز وجل من هذا الشر، أما من ضيع أمر الله فإن الله تبارك وتعالى يضيعه، حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه، يقول الفضيل رحمه الله تعالى: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي.
يعني: إذا عصيت الله عرفت شؤم المعصية في الاعوجاج الذي يصيب دابتي، بحيث لا تنقاد له، وكذلك الخادم يفعل خلاف ما يأمره به سيده.
هذا ما يتعلق بالنوع الأول من حفظ الله عز وجل العبد، وهو حفظه في نفسه وفي ماله وفي ذريته وسائر شئونه.
النوع الثاني: حفظ الله العبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه حتى يتوفاه على الإيمان، ويرزقه حسن الخاتمة.
كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند نومه: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
وعلم عمر رضي الله تعالى عنه أن يدعو الله عز وجل بهذا الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً حاسداً).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع من أراد سفراً قال له: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، وكان يقول: (إن الله إذا استودع شيئاً حفظه)، فهو كان يقول هذا حتى يحفظ الله على هذا العبد دينه وأمانته وخواتيم عمله.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله تجده تجاهك) وفي رواية: (أمامك) معناه: أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه وينصره ويحفظه ويسدده، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.