وَقد ذهل الْكثير عَن هَذَا السِّرّ فِيهِ حَتَّى صَار انتحاله مجهلَة واستخف الْعَوام وَمن لَا رسوخ لَهُ فِي المعارف مطالعته وَحمله والخوض فِيهِ والتطفل عَلَيْهِ فاختلط المرعى بالهمل واللباب بالقشر والصادق بالكاذب وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور
وَمن الْغَلَط الْخَفي فِي التَّارِيخ الذهول عَن تبدل الْأَحْوَال فِي الْأُمَم والأجيال بتبدل الْأَعْصَار ومرور الْأَيَّام وَهُوَ دَاء دوِي شَدِيد الخفاء إِذْ لَا يَقع إِلَّا بعد أحقاب متطاولة فَلَا يكَاد يتفطن لَهُ إِلَّا الْآحَاد من أهل الخليقة وَذَلِكَ أَن أَحْوَال الْعَالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لَا تدوم على وتيرة وَاحِدَة ومنهاج مُسْتَقر إِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاف على الْأَيَّام والأزمنة وانتقال من حَال إِلَى حَال وكما يكون ذَلِك فِي الْأَشْخَاص والأوقات والأمصار فَكَذَلِك يَقع فِي الْآفَاق والأقطار والأزمنة والدول
وَقد كَانَت فِي الْعَالم أُمَم الْفرس الأولى والسريانيون والنبط والتبابعة وَبَنُو إِسْرَائِيل والقبط وَكَانُوا على أَحْوَال خَاصَّة بهم فِي دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم ولغاتهم واصطلاحاتهم وَسَائِر مشاركاتهم مَعَ أَبنَاء جنسهم وأحوال اعتمارهم للْعَالم تشهد بهَا آثَارهم
ثمَّ جَاءَ بعدهمْ الْفرس الثَّانِيَة وَالروم وَالْعرب فتبدلت تِلْكَ الْأَحْوَال وانقلبت بهَا العوائد إِلَى مَا يجانسها أَو يشابهها وَإِلَى مَا يباينها أَو يباعدها
ثمَّ جَاءَ الْإِسْلَام بدولة مُضر فَانْقَلَبت تِلْكَ الْأَحْوَال أجمع انقلابة أُخْرَى وَصَارَت إِلَى مَا أَكثر مُتَعَارَف لهَذَا الْعَهْد يَأْخُذهُ الْخلف عَن السّلف
ثمَّ درست دولة الْعَرَب وأيامهم وَذَهَبت الأسلاف الَّذِي شيدوا عزهم ومهدوا ملكهم وَصَارَ الْأَمر فِي أَيدي سواهُم من الْعَجم مثل التّرْك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشمال فَذَهَبت بذهابهم أُمَم وانقلبت أَحْوَال وعوائد نسي شَأْنهَا وأغفل أمرهَا
وَالسَّبَب الشَّائِع فِي تبدل الْأَحْوَال والعوائد أَن عوائد كل جيل تَابِعَة