قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {مَا يَلْفِظُ} (ما) : نافية، و (قول) : مجرورة بـ (مِنْ) الزائدة إعراباً، المفيدة معنىً، وأصلها بدون زيادة: ما يلفظ قولاً؛ لكن تأتي حروف الجر أحياناً زائدة في الإعراب لكنها تفيد معنى التوكيد، ولهذا النفي إذا اقترن المنفي بِمِنْ الزائدة أو بـ (الباء) الزائدة، مثل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فإنه أوكد في العموم من النفي المجرد من حرف الجر الزائد.
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} إذا جعلنا (مِنْ) زائدة إعراباً مفيدة معنى فما فائدة معناها؟ التوكيد على العموم، أي: أيُّ قولٍ يلفظه الإنسان: {لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] سبحان الله! {رَقِيبٌ} [ق:18] يراقب ليلاً ونهاراً لا ينفك عن الإنسان: {عَتِيدٌ} [ق:18] حاضر، لا يمكن أن يغيب ويوكل غيره، هو قاعد مراقب حاضر لا يفوته شيء: {مِنْ قَوْلٍ} [ق:18] أي قول؟ كل القول؛ لأن (مِنْ) هذه زائدة، و (قَوْل) نكرة في سياق النفي لبيان العموم، أيُّ قولٍ يقوله.
وظاهر الآية الكريمة: أن القول مهما كان يُكتب سواءً كان خيراً أم شراً أم لغواً، لكن المحاسبة على ما كان خيراً أو شراً، ولا يلزم من الكتابة أن يحاسَب الإنسان عليها، وهذا ظاهر اللفظ، وهو أحد القولين لأهل العلم.
ومن العلماء من يقول: إنه لا يكتُب إلا الحسنات والسيئات فقط، أما اللغو فلغو لا يُكتب، فأيُّ القولين أولى؟ الأول أولى وهو: العموم، أما النتيجة فواحدة؛ لأنه حتى على القول بأن الكاتب يكتُب كل شيء، يقولون: إنه لا يحاسَب إلا على الحسنات والسيئات.
لكن كوننا نقول بالعموم هو المطابق لظاهر الآية، ثم هو الذي فيه الدليل على أن الملكَين لا يفوتان ولا يتركان شيئاً، مما يدل على كمال عنايتهما بما ينطق به الإنسان.
وبناءً على ذلك يجب علينا أن نحترز غاية الاحتراز من أقوال اللسان، فكم زلة لسانية أوجبت الهلاك والعياذ بالله، قال أبو هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي قال: (والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك) قال: [إنه تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته] نسأل الله العافية.
احذر لسانك أن تقول فتُبتلى إن البلاء مُوَكَّلٌ بالمنطقِ
احذر آفات اللسان، إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حفظ اللسان مِلاك الأمر كله، فقال عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل: (أفلا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه وقال: كف عليك هذا -لا تطلقه، لا تتكلم- قال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال له: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتِهم) فالمؤمن يجب أن يحذر لسانه، فإنه آفة عظيمة.
ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) .
وحينئذ نعرف أن الصمت مفضل على الكلام؛ لأن الكلام قد لا يدري الإنسان أخير هو أم شر.
ثم إني أقول لكم: الكلمة إذا أطلقتها وخرجت من فمك فهي كالرصاصة تطلقها على ولدك، هل يمكنك أن تمنع الرصاصة إذا خرجت من فوهة البندقية؟ لا، خلاص انطلقت، تفسد أو تصلح، كذلك الكلمة، فالعاقل يمنع لسانه ولا يتكلم إلا بالخير، والخير إما في ذات المتكلَّم به، وإما في غيره: قد يكون الكلام ليس خيراً بنفسه لكنه خير من جهة آثاره، قد يتكلم الإنسان بكلام لغو في مجلس، والكلام ليس أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، وليس إثماً ووِزراً؛ لكن يتكلم من أجل أن يفتح الباب للحاضرين؛ لأنه أحياناً تستولي على المجلس الهيبة ولا يتكلم أحد، فيبقى الناس كأنهم في غَمْ، فيتكلم من أجل أن يفتح الباب للناس، وتنشرح صدورهم، ويحصل تبادل الكلام الذي قد يكون نافعاً، نقول: هذا الكلام الذي تكلمه وفتح به باب الكلام وأزال عن الناس الغمة يُعتبر خيراً لغيره، وهذا داخل -إن شاء الله- في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) .
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حفظ ألسنتنا وجوارحنا عما يغضبه، وأن نستعملها فيما يرضيه، إنه على كل شي قدير.