ثم قال عز وجل مستدلاً على قدرته على البعث: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أي: ابتدأنا خلقه، فأوجدناه، وجعلنا له عقلاً وسمعاً وبصراً وتفكيراً وحديثاً للنفس.
{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أي: ونحن نعلم ما توسوس به نفسه، أي: ما تحدثه به نفسه دون أن ينطق به، فالله تعالى عالم به، بل إن الله عالم بما سيحدث به نفسه في المستقبل، والإنسان نفسه لا يعلم ماذا يحدث به نفسه في المستقبل.
انظر الآن ما يوسوس به الإنسان نفسه في الحاضر يعلمه الإنسان، أليس كذلك؟ والله تعالى يعلمه، ونقول: بل الله يعلم ما سوف توسوس به نفسه في المستقبل، والإنسان لا يعرف، أي: أن الله يعلم ما ستوسوس به نفسُك غداً وبعد غد وإلى أن تموت وأنت لا تعلم.
إذا كان الله يعلم ما توسوس به النفس فما الذي يوجب لنا هذا العلم؟ يوجب لنا مراقبة الله سبحانه وتعالى، وألا نحدث أنفسنا بما يغضبه، وبما يكرهه علينا أن يكون حديث نفوسنا كله بما يرضيه، لأنه يعلم ذلك، أفلا يليق بنا أن نستحي من ربنا عز وجل أن توسوس نفوسنا بما لا يرضاه.
قال الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:16-17] .
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] (حبل الوريد) هو الأوداج، وهما: العرقان العظيمان المحيطان بالحلقوم، يُسمى: الوريد، ويسمى: الودج، وجمعه: أوداج، ويُضْرَب المثل بهما في القرب، يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أي شيء أقرب إليه؟ أقرب شيء إلى قلبك هو: حبل الوريد هذا، أقرب من المخ، وأقرب من كل شيء فيه الحياة هما: الوريدان.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] هل المراد قرب ذاته جل وعلا أو المراد قرب ملائكته؟ الصحيح: أن المراد: قرب ملائكته، ووجه ذلك: أن قرب الله تعالى صفة عالية لا يليق أن تكون شاملة لكل إنسان؛ لأننا لو قلنا: إن المراد قرب ذات الله؛ لكان قريباً من الكافر، وقريباً من المؤمن لماذا يلزم ذلك؟ لأن الله قال: {خَلَقْنَا الإِنْسَانَ} [ق:16] أيَّ إنسان خلق؟ المؤمن والكافر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق:16] أي: إلى هذا الإنسان الذي خلقناه من حبل الوريد.
فإذا قلنا: الآية الشاملة، وقلنا: إن القرب هنا القرب الذاتي: صار الله قريباً بذاته مِن الكافر.
وهذا غير لائق، بل الكافر عدو لله عز وجل.
لكن الراجح: ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن المراد بالقرب هنا قرب الملائكة، أي: أقرب إليه بملائكتنا، ثم استدل بقوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:17] فـ (إِذْ) بمعنى: حين، وهي متعلقة بأقرب، أي: أقرب إليه في هذه الحال حين {يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] .
فإن قال قائل: كيف يضيف الله المسند إليه والمراد به الملائكة؟ ألهذا نظير؟ قلنا: نعم، له نظير، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16-18] (قرأناه) : المراد بذلك؟ جبريل، ونَسَبَ الله فِعْل جبريل إلى نفسه؛ لأنه رسوله، كذلك الملائكة نسب الله قربهم إليه؛ لأنهم رسله، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} .
{بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] .
وما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله هو الصواب.
فإن قال قائل: وهل الله تعالى قريب من المؤمن على كل حال؟ قلنا: بل في بعض الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فهذا قرب في حال الدعاء، مصداق ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] كذلك هو قريب من المؤمن في حال السجود؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) .
وعلى هذا فيكون الله تعالى قريباً من المؤمن حال عبادته لربه، وحال دعائه لربه.
أما القرب العام: فإن المراد به القرب بالملائكة، على القول الراجح.
وقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:17] هما ملَكان، بيَّن الله مكانهما من العبد، فقال: {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] .
{عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ} [ق:17] ولم يقل: على اليمين وعلى الشمال؛ لأنهما ليسا على الكتفين بل هما في مكان قريب أقرب من حبل الوريد.
ولكن قد يقول قائل ملحد: أنا ألتمس حولي لا ألمس أحداً، أين القاعد؟ أين القعيد؟! فنقول: هذا من علم الغيب الذي لا تدركه عقولنا، وعلينا أن نصدق به، ونؤمن به كما لو لمسناه بأيدينا، أو شاهدناه بأعيننا، أو غير ذلك من أدوات الحواس، علينا أن نؤمن بذلك؛ لأنه قول الله عز وجل.
فنقول: {عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] : قاعد، مستقر، أحدهما يكتب الحسنات، والثاني يكتب السيئات، هذا المكتوب الذي بأيدي الملائكة عرضة للمحو والإثبات؛ لقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: أصل أم الكتاب هو: اللوح المحفوظ، مكتوب فيه ما يستقر عليه العبد، لكن ما كان قابلاً للمحو والإثبات فهو الذي في أيدي الملائكة، قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] انظر! حسنة تذهب السيئة، تمحوها بعد أن كُتِبَت، وهذا باعتبار ما في أيدي الملائكة، أما أم الكتاب الأصل فمكتوب فيها ما يستقر عليه العبد.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستقر على الإيمان والثبات في الدنيا والآخرة.