إذا كان الحق غير مالي مثل أن يكون شخص اغتبتَه في مجلس أو مجالس فكيف التوبة من هذا؟ قال كثير من العلماء: لابد أن تذهب إليه وتستحله، وإلا فسيأخذ من حسناتك يوم القيامة، اذهب إليه وقل له: يا فلان! سامحني.
وقال بعض العلماء: لا يجب أن تستحله، وإنما تستغفر له، وتثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والحسنات يذهبن السيئات، وقد جاء في الحديث: (كفارة من اغتبته أن تستغفر له) .
ولكن فيه قول ثالث وسط ولعله الصواب، يقول: إن كان صاحبك الذي اغتبته قد علم بذلك فلابد من أن تذهب إليه وتستحله؛ لأنه لن يزول ما في قلبه حتى تستحله، أما إذا كان لم يعلم فيكفي أن تستغفر له، وأن تثني عليه في المجالس التي كنت تغتابه فيها، والله غفور رحيم.
وينبغي لمن جاء إليه أخوه يعتذر منه أن يسامحه ولكن هل يناقشه ويقول: أنت الآن تطلب مني أن أحللك لكن ما الذي فعلت معي؟ يعني: هل ينبغي أن يناقشه ويرى ما الذي حصل، أو يقول: أنت في حل ويكفي؟ الأولى ألا يناقشه؛ لأنه ربما يذكر شيئاً كبيراً فتعجز نفسُ صاحبه عن أن يحلله، أليس كذلك؟ ربما إذا قال: والله حلني، قال: ماذا أنت فاعل معي، قال: فعلت كذا وكذا وكذا ويكون الشيء كبيراً وتأبى نفسه أن يحلِّل؛ لأن النفس أمارة بالسوء، فالأَولى ألا يسأل، ألا يقول: ما الذي فعلت؟ وأن يحتسب الأجر من الله ويقول: هذا جاء معتذراً، ومن عفا وأصلح فأجره على الله، ولولا أنه نادم وتائب وأنه يرجى في المستقبل أن تعود هذه الغيبة ثناءً حسناً، ويقول: أنت مني في حِل، وأجره على من؟ على الله.
فصار عندنا الآن بالنسبة لمن كانت مظلمته غير مال هل يذهب ويستحله أو لا يذهب؟ كم قولاً في المسألة؟ ثلاثة أقوال.
الأول: أنه لابد أن يذهب إليه ويستحله.
والثاني: لا حاجة للذهاب إليه، بل يستغفر له ويثني عليه في الأماكن التي كان يغتابه فيها.
والثالث: التفصيل، وهذا التفصيل هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الحق؟ وهو أنه إن كان عالماً فلابد أن تستحله حتى يزول ما في قلبه، وإن كان غير عالم فلا حاجة إلى استحلاله.
هذا بالنسبة للذي اغتاب غيره.
أما الذي اغتَيْبَ وطُلِبَ منه السماح فالذي نراه أن الأفضل والأكمل أن يحلِّله؛ لأنه أخوه جاءه معتذراً نادماً فليحلِلْه، وثقوا بأنه إذا حلله ستكون كبيرة عظيمة على الشخص الذي استحله، سيرى أنه أهدى إليه أكبر هديه فتنقلب الكراهة التي كانت من قبل تنقلب إلى محبة وألفة؟ وهذا هو المطلوب من المسلمين، أن يكون بعضهم لبعض آلفاً محباً وادَّاً، يقول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] هو سبحانه وتعالى رحيم وهو رحمان، وقد اجتمع الاسمان في أعظم سورة في كتاب الله، فما هي؟ الفاتحة، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2] .
قال العلماء: إذا ذُكِر الرحمن وحده كما في قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:92] .
وكما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] .
أو صار الرحيم وحده كما في هذه الآية: {تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] فمعناهما واحد، يعني: أن الرحيم وذو الرحمة الواسعة الشاملة، والرحمن إذا ذكر وحده هو ذو الرحمة الواسعة الشاملة، أما إذا اجتمعا جميعاً فالرحمن باعتبار الوصف، والرحيم باعتبار الفعل، انتبه! الرحمن باعتبار الوصف والرحيم باعتبار الفعل يعني: أنه عز وجل ذو رحمة واسعة وهو -أيضاً- راحم يوصل الرحمة إلى من يشاء من عباده، كما قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] .
أسأل الله تعالى أن يعمني وإياكم برحمته وجميع إخواننا المسلمين، وأن يجعلنا من دعاة الخير والإصلاح، إنه على كل شيء قدير.