التوبة وشروطها

يقول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] هذان اسمان من أسماء الله: الأول: التواب.

والثاني: الرحيم.

والتواب هنا: صيغة مبالغة، واسم الفاعل مِن تاب: تائب، والتواب تعني: كثرة التوبة، وأنه عز وجل متصف بهذا الوصف، وإنما كان الرب عز وجل كثير التوبة: لأن العباد كثيرون، هذه واحدة.

ولأن الذنوب التي يقترفها الإنسان كثيرة، ما أكثر ما يقترفه الإنسان من الذنب ويتوب الله عليه! فلهذا سَمَّى نفسه التواب، وما هي التوبة؟ التوبة من العبد: أن ينتقل من معصية الله إلى طاعته.

والتوبة من الله: أن يقبل الله من العبد فيبدِّل سيئاته حسنات.

إذاً: التوبة من العبد ما هي؟ الانتقال.

من ماذا؟ من المعصية إلى الطاعة.

الرجوع من المعصية إلى الطاعة، والتوبة من الله: قبول هذه التوبة من العبد، وإبدال سيئاته بحسنات، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ.

} [الفرقان:68] إلى أن قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] .

وقد تُطْلَق التوبة من الله على توفيقه العبد للتوبة.

فللعبد توبتان: توبة بمعنى: التوفيق للتوبة.

وتوبة بمعنى: قبول التوبة.

ما هو الدليل على هذا؟ الدليل: قول الله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118] ، كيف تاب ليتوبوا؟ أي: وفقهم للتوبة فتابوا.

أما التوبة الأخرى وهي: قبول توبة العبد: فمثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25] .

توبة العبد تحتاج إلى شروط؛ إذ ليس كل توبة مقبولة، لا بد يا إخواني! من شروط: الأول: إخلاص النية.

الثاني: الندم على الذنب، وانكسار القلب، وخجله من الله عز وجل، وأن يشعر الإنسان بأنه مذنب، يحتاج إلى توبة ونعمة من الله عز وجل.

الثالث: الإقلاع عن المعصية، إما بفعل الواجب وتداركه إن أمكن، أو بالإقلاع عن المحرم.

والرابع: العزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، فإن أقلع عنه وندم ولكن في نيته أنه متى سنحت له الفرصة عاد إلى الذنب فهذا لا تقبل توبته.

الشرط الخامس: أن تكون في الوقت الذي تُقْبَل فيه التوبة؛ لأن التوبة لها وقت تُرَدُّ فيه مهما تاب العبد وهو -أي: الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة- نوعان: خاص.

وعام.

أما الخاص فهو: حلول الأجل: إذا حضر الموت فإنه لا قبول للتوبة مهما كان، دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] ، هذا ليس له توبة بعد أن شاهد وعاين العذاب يقول: أتوب؟! لا ينفع، الحدود في الدنيا إذا قُدِر على العبد وتاب بعد القدرة عليه هل يرتفع عنه الحد؟ لا.

لقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] ، كذلك الإنسان إذا حضره الموت وشاهد وعاين لا تنفعه التوبة للآية الكريمة وهي في سورة النساء، وقد وقع ذلك فعلاً حين تاب فرعون بعد أن أدركه الغرق قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] ماذا قيل له؟ قيل له {آلْآنَ} [يونس:91] يعني: آلآن تؤمن بما آمنت به بنو إسرائيل؟! هذا لا ينفع، {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] .

الثاني: العام: الوقت الذي يكون لعموم الناس، إذا حصل أو إذا جاء فإنها لا تقبل التوبة، وذلك إذا طلعت الشمس من مغربها، فالشمس الآن تدور منذ خلقها الله عز وجل، تأتي من ناحية المشرق وتغيب من ناحية المغرب، فإذا أراد الله تعالى انقضاء الدنيا انعكست القضية وصارت الشمس تأتي من المغرب، وإذا رآها الناس آمنوا كلهم؛ لأنهم يعلمون أن لهذا الكون مدبراً وإلا فمن يستطيع أن يأتي بالشمس من المغرب، هل من أحد يستطيع؟ لا.

ولهذا قال إبراهيم للذي ناظره قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] ؛ لكن إذا رأى الناس كلهم الشمس بعد أن غابت رجعت من المغرب سيؤمنون؛ لكن هذا الإيمان هل هو قهري أم اختياري؟ قهري؛ لأنه شاهد.

ولهذا قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] والمراد ببعض الآيات هنا: طلوع الشمس من مغربها.

إذاً: لابد للتوبة من شروط خمسة: الأول: الندم على فعل المعصية.

الثاني: إخلاص النية لله عز وجل، بألا يقصد الإنسان بالتوبة أن ينال مرتبة، أو أن ينال جاهاً، أو أن يُمدح عند الناس، مثاله: إنسان معروف بالفسق والانحلال وأُعْلِن عن وظيفة إمام مسجد، ومعلوم أنه لن يُوَظَّف في إمامة المسجد إلا من كان مستقيماً، هو استقام من أجل ماذا؟ من أجل أن يكون إماماً في المسجد، هذا لا تنفعه التوبة؛ لأنه لم يخلص النية لله.

الشرط الثالث: الإقلاع عن الذنب، وذلك بأن يأتي بالواجب إن أمكن تداركه، أو بدله إذا لم يمكن تداركه وكان له بدل، أو يقلع عن المحرم إذا كان الذنب فعلاً محرماً.

حسن! إذا كان الذنب في حق إنسان بأن يكون شخص سرق من إنسان مالاً، السرقة حرام، تاب الرجل وندم وعزم على ألا يعود، فبماذا يكون تحقيق التوبة؟ لابد أن يوصل هذا المال إلى صاحبه، ولا يمكن أن تتم التوبة إلا بهذا، فإذا قال: أخشى إن ذهبتُ إلى هذا الرجل وأعطيته المال أخشى أن يترتب على ذلك ضرر عليَّ؛ على سمعتي، وربما أُحْبَس وأنا قد تبت إلى الله قبل أن يُقْدَر عليَّ! فكيف تكون الحال؟ هل يجوز أن يتصدق به عن صاحبه؟

صلى الله عليه وسلم لا؛ لأن صاحبه معلوم، أما لو كان مجهولاً يقول: والله إنه سرق من أناس نسيهم أو جهلهم لا يدري أين هم، فهنا يتصدق بما سرق عنه؛ لكن إذا كان معلوماً لابد أن يوصله، إذاً: ماذا يصنع؟ نقول: ممكن أن تعطي شخصاً تثق به وتقول: يا فلان! إني سرقت هذا المال من فلان، وقد ندمتُ وتبتُ إلى الله فمِن فضلك أعطه إياه وقل له: هذه دراهم من إنسان تستحقها عليه وهو الآن يبذلها.

إذا لم يكن هذا ممكناً فيمكن أن ترسل بالبريد، ويقال: هذه دراهم من شخص تستحقها عليه، وفي هذه الحال من المعلوم أنك لن تكتب اسمك أليس كذلك؟ وأيضاً لا يحسن أن تكتبها بقلمك؛ لأنه ربما يمر عليه يوم من الدهر، اكتبها بالآلة التي تطبع طباعة بالكمبيوتر أو غيره وأرسلها إليه، هذا إذا كان الحق مالياً، حق إنسان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015