ابتدأ الله تعالى هذه السورة بالحمد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] والحمد وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم, وذلك أن وصف الغير بالكمال قد يكون خوفاً منه, أو هيبة له, أو استجداءً له، وهذا لا يلزم منه المحبة والتعظيم, بدليل: أن الشعراء يأتون إلى الملوك والوزراء يصفونهم بالحمد لكن قد لا يكون في قلوبهم محبة لهم أو تعظيماً لهم, لكن استجداءً أو خوفاً أو ما أشبه ذلك, ولهذا يسمى مثل ذلك مدحاً ولا يسمى حمداً, أما الحمد فلا بد أن يكون مقروناً بالمحبة والتعظيم, وعلى هذا فالحمد -أعني حمد الله- وصفه تبارك وتعالى بالكمال الذي لا فوقه كمال, وقول: (الحمد) هذه "ال" فيها للاستغراق, أي: جميع المحامد من كل وجه لله عز وجل, وقوله: (لله) اللام هنا للاختصاص والاستحقاق, أما كونها للاختصاص فلأنه لا أحد يحمد بجميع المحامد إلا الله عز وجل, وأما كونها للاستحقاق فلأنه لا أحد يحمد حمداً يستحقه على وجه الكمال إلا الله عز وجل, ولهذا جعل العلماء اللام في قوله: (لله) للاختصاص والاستحقاق, أما الله فهو علم على رب العالمين جل وعلا, لا يسمى به غيره.
و (رَبِّ الْعَالَمِينَ) (رب) معناه: الخالق المالك المدبر, أي: أنها تتضمن ثلاث معاني: المعنى الأول: الخالق, ولا خالق إلا الله, وقد قال الله تعالى مندداً بالأصنام: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17] , وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:3] .
المعنى الثاني: المالك, لا ملك لأحد سوى الله عز وجل, هو الذي يملك الملك التام المطلق العام, وأملاك غيره محدودة من حيث الشمول, فلا أحد يملك كل ما في السماوات والأرض, محدودة من حيث التصرف فلا أحد يملك أن يتصرف فيما يملكه ملكاً خاصاً إلا حسب ما شرع الله عز وجل, لكن الملك المطلق التام العام هو لله وحده.
المعنى الثالث: المدبر, فالتدبير التام لله عز وجل, لا أحد يدبر سواه, حتى المشركون يقرون بأن الذي يدبر الأمر هو الله عز وجل, ولكن اعلم أن الله تعالى لا يدبر شيئاً عبثاً أو بغير حكمة, كل ما قضاه الله وقدره ودبره فهو لحكمة عظيمة, لكن من الحكم ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه, وذلك لأن عقولنا أقصر وأحقر من أن تحيط بحكمة الله عز وجل.
يرد على الإنسان أشياء من الشريعة ويقول: كيف يحكم هذا؟ مثال ذلك: يقول مثلاً: كيف يحرم على الإنسان أن يستبدل صاعاً من البر طيباً بصاعين من البر رديئة والقيمة واحدة؟ هذا قد يشكل على الإنسان, وهذا حرام أن تعطي صاعاً من البر بصاعين، هذا حرام على كل حال, فقد يقول قائل: لماذا حرام؟! فنقول: إنك لست أحكم من الله, ولولا أن هذا يترتب عليه مفاسد عظيمة ما حرمها الله على العباد, لأن الله يريد بالعباد اليسر ولا يريد بهم العسر, ولا يمكن أن يمنعهم أي معاملة إلا وفيها ضرر، إما منظور وإما منتظر, يشكل على الإنسان أن الله يقدر الحروب, والفقر, وجدب الأرض, وقحط السماء لا تنزل ماءً, فيقول: ما هذا؟ ما الفائدة؟ هذه مضرة على العباد, فنقول: لست أحكم من الله, إن الله تعالى لا يقدرها إلا لحكمة عظيمة, قد تعلمها وقد لا تعلمها, ولهذا يجب أن نستسلم للقضاء الشرعي كما نستسلم للقضاء القدري, القضاء القدري كل مستسلم له: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران:83] حتى الكفار مستسلمون بالقضاء القدري, لكن القضاء الشرعي لا يستسلم له إلا المؤمنون, فنحن يجب علينا أن نستسلم للقضائين: الكوني والقدري, وإن شئت فقل: أن نستسلم للقضاء الشرعي كما نحن مستسلمون للقضاء القدري, المهم أن الذي يدبر الأمر هو الله عز وجل.
وقوله: (الْعَالَمِينَ) المراد بهم كل من سوى الله فهم عالم, وهذا اللفظ (العالمين) مشتق من العلامة, لأن كل الكون آية من آيات الله عز وجل, وفي كل جنس منه ونوع منه وفرد منه آية من آيات الله, كل شيء تتأمله تجد أنه دال على الرب عز وجل وعلى حكمته ورحمته, وما أصدق قول الشاعر:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
إذاً العالمون كل من سوى الله, وسموا عالماً من العلامة؛ لأن وجود هذا الكون وما يحدث فيه كله آية وعلامة على الله عز وجل, ويجب أن تعرف الفرق بين العالمَين بفتح اللام, والعالِمين بكسر اللام, العالَمين قلنا: كل ما سوى الله, والعالِمين هم ذوي العلم, كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] .