ثم قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] , قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إذا سمعت الله يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فأرعها سمعك -أي: استمع لها- فإما خير تؤمر به, وإما شر تنهى عنه] لأن هذا نداء بأشرف الأوصاف وهو الإيمان {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فمن هو الفاسق؟ هو من انحرف في دينه ومروءته, وضده العدل: وهو من استقام في دينه ومروءته، وهو ضد الفاسق, فإذا جاءنا فاسق منحرف في دينه ومروءته, بمعنى: أنه مصر على المعاصي تارك للواجبات لكنه لم يصل إلى حد الكفر, أو منحرف في مروءته, لا يبالي بنفسه يمشي بين الناس مشية الهوجاء, ويتحدث برفع صوت، ويأتي معه بأغراض بيته يطوف بها في الأسواق وما أشبه ذلك مما يخالف المروءة, فهذا عند العلماء ليس بعدل.
في هذه الآية يقول الله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات:6] خبر, أي خبر من الأخبار وهو فاسق, ولنطبق هذه المسألة على الواقع: جاءنا رجل حالق اللحية, حالق اللحية فاسق لماذا؟ لأنه مصر على معصية الله ورسوله, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعفوا اللحى) وهذا لم يعفِ لحيته بل حلقها, فهذا الرجل من الفاسقين لأنه مصر على معصية, جاءنا بخبر هل نقبله؟ لا, هل نرده؟ لا, لا نقبله لما عنده من الفسق, ولا نرده احتمال أن يكون صادقاً, ولهذا قال الله عز وجل: {فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ولم يقل: فردوه، ولم يقل: فاقبلوه, بل يجب علينا أن نتبين, وفي قراءة: (فتثبتوا) وهما بمعنى متقارب, المعنى: أن نتثبت, فإذا قال قائل: إذاً لا فائدة من خبره، قلنا: لا, بل في خبره فائدة وهو أنه يحرك النفس, حتى نسأل ونبحث, لأنه لولا خبره ما حركنا ساكناً, لكن لما جاء بالخبر نقول: لعله كان صادقاً فنتحرك ونسأل ونبحث, فإن شهد له الواقع بالحق قبلناه؛ لوجود القرين الدال على صدقه وإلا رددناه.
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] يفيد أنه إذا جاءنا عدل فإننا نقبل الخبر, لكن هذا فيه تفصيل عند العلماء دل عليه القرآن والسنة, فمثلاً: الشهادة في الزنا, لو جاءنا رجل عدل في دينه مستقيم في مروءته وشهد أن فلاناً زانٍ, هل نقبل شهادته؟ لا, وإن كان عدلاً بل نجلده ثمانين جلدة؛ لأنه قذف هذا الرجل البريء بالزنا، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] ولا نقبل له شهادة أبداً, ونحكم بأنه فاسق, وإن كان عدلاً حتى يتوب.
شهد رجلان عدلان على زيد أنه زنأ, هل نقبل شهادتهما؟ لا, ثلاثة؟ لا, أربعة؟ نعم, لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، وقال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] لو جاءنا ثلاثة نعرف أنهم ثقات عدول وشهدوا بالزنا على شخص, فهم عند الله كاذبون, غير مقبولين ويجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة.
جاءنا رجل شهد على شخص أنه سرق, هل نقبل شهادته؟ لا, لا بد من رجلين.
جاءنا رجل شهد أنه رأى هلال رمضان, هل نقبل شهادته؟ نعم نقبلها, لأن السنة وردت بذلك, فقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [تراءى الناس الهلال -أي: ليلة الثلاثين من شعبان- فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام] .
رجل كان غنياً فأصيب بجائحة ثم جاء يسأل من الزكاة, وأتى بشاهد أنه كان غنياً فأصابته جائحة وافتقر, فهل نقبل شهادة واحد؟ لا, نقبل شهادة اثنين؟ لا, لا بد من ثلاثة, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ قبيصة: (إنها لا تحل المسألة) وذكر منها: (رجل أصابته جائحة -أي: اجتاحت ماله- فشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: أن فلاناً أصابته جائحة فحلت له المسالة) (ثلاثة من ذوي الحجا) أي: من ذوي العقل.
فالحاصل: أن الفاسق ما موقفنا من خبره؟ التوقف حتى يتبين الأمر, أما غير الفاسق ففيه تفصيل, قد لا نقبل إلا خبر أربعة كما في الزنا, أو ثلاثة كما في الرجل الذي كان غنياً فأصيب بجائحة ثم جاء يطلب الصدقة, فإننا لا نقبل منه حتى يشهد ثلاثة, رجلان فيما لو شهد الإنسان بحد سرقة فإننا لا نقبل إلا رجلين.
ممكن نقبل رجلاً مع يمين المدعي، كما لو ادعى شخص على آخر بأنه يطلبه ألف ريال فقلنا للمدعي: هات بينة، قال: عندي رجل واحد, إذا أتى بالرجل الواحد وحلف معه حكمنا له بما ادعاه.
وعلى هذا فخبر العدل فيه تفصيل على ما سمعتم, وهناك أشياء لا يتسع المقام لذكرها.