سنتكلم على سورة الحجرات لما فيها من الآداب العظيمة النافعة, التي ابتدأها الله بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] واعلم أن الله تعالى إذا ابتدأ الخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:1] فإنه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه, فأرعه سمعك واستمع إليه لما فيه من الخير] وإذا صدر الله الخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} دل ذلك على أن التزام ما خوطب به من مقتضيات الإيمان, وأن مخالفته نقص في الإيمان.
يقول الله عز وجل: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] قيل معنى: {لا تُقَدِّمُوا} أي: لا تتقدموا بين يدي الله ورسوله, والمراد لا تسبقوا الله ورسوله بقول أو بفعل, وقيل المعنى: لا تقدموا شيئاً بين يدي الله ورسوله, وكلاهما يصبان في مصب واحد, والمعنى: لا تسبقوا الله ورسوله بقول ولا فعل, وقد وقع لذلك أمثلة, فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) لأن الذي يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين كأنه تقدم بين يدي الله ورسوله, فبدأ بالصوم قبل أن يحين وقته, قال عمار بن ياسر: [من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم] .
ومن ذلك -أي: من التقدم بين يدي الله ورسوله-: البدع بجميع أنواعها, فإنها تقدم بين يدي الله ورسوله, بل هي أشد التقدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي, وإياكم ومحدثات الأمور) وأخبر: (أن كل بدعة ضلالة) وصدق عليه الصلاة والسلام, فإن حقيقة حال المبتدع أنه يستدرك على الله ورسوله ما فات مما يدعي أنه شر, كأنه يقول: إن الشريعة لم تكمل، وأنه كملها بما أتى به من البدعة, وهذا معارض تماماً لقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] فيقال لهذا الرجل الذي ابتدع: أهذا الذي فعلته كمال للدين؟ إن قال: نعم.
فإن قوله هذا يستلزم تكذيب قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وإن قال: ليس كمالاً في الدين, قلنا: إذاً هو نقص؛ لأن الله يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] فالبدعة كما أنها ضلالة في نفسها فهي في الحقيقة تتضمن الطعن في دين الله, وأنه ناقص، وأن هذا المبتدع كمله بما ادعى أنه من شريعة الله عز وجل.
فالمبتدعون كلهم تقدموا بين يدي الله ورسوله ولم يبالوا بهذا النهي, حتى وإن حسن قصدهم فإن فعلهم ضلالة, قد يثاب على حسن قصده ولكنه يوزر على سوء فعله, ولهذا يجب على كل مبتدع علم أنه على بدعة أن يتوب منها, ويرجع إلى الله عز وجل, ويلتزم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
والبدعة أنواع كثيرة: بدع في العقيدة, وبدع في الأقوال, وبدع في الأفعال.
أما البدع في العقيدة فإنها تدور على شيئين: إما تمثيل، وإما تعطيل.
إما تمثيل: بأن يثبت لله الصفات لكن على وجه المماثلة, فإن هذا بدعة؛ لأنه لم يكن من طريق النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فيكون بدعة, فمثلاً يثبت لله وجهاً ويجعله مماثلاً لوجه المخلوقين, أو يداً يجعلها مماثلة لأيدي المخلوقين وهلم جراً هؤلاء مبتدعة لا شك, وبدعتهم تكذيب لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ولقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] ولقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] .
أما التعطيل: فهو على العكس من هذا, التعطيل: أن ينكر ما وصف الله به نفسه, فإن كان إنكار جحد وتكذيب فهو كفر, وإن كان إنكار تأويل فهو تحريف، وليس بكفر إذا كان اللفظ يحتمله, فإن كان لا يحتمله فلا فرق بينه وبين إنكار التكذيب, مثلاً: لو قال إنسان: إن الله سبحانه وتعالى قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] والمراد باليدين النعمة، نعمة الدين ونعمة الدنيا, أو نعمة الدنيا ونعمة الآخرة, فهذا تحريف؛ لأن النعمة ليست واحدة ولا ألف ولا ملايين قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فليست النعمة اثنتين لا بالجنس ولا بالنوع, فيكون هذا تحريفاً وبدعة؛ لأنه على خلاف ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة الهدى من بعدهم, هذا بدعة في العقيدة.
البدعة في الأقوال: مثل أولئك الذين يبتدعون تسبيحات، أو تهليلات، أو تكبيرات لم ترد بها السنة, أو يبتدعون أدعية لم ترد بها السنة، وليست من الأدعية المباحة.
وأما الأفعال فكذلك أيضاً مثل: الذين يصفقون عند الذكر, أو يهزون رءوسهم عند التلاوة, أو ما أشبه ذلك من أنواع البدع, وكذلك الذين يتمسحون بالكعبة في غير الحجر الأسود والركن اليماني, وكذلك الذين يتمسحون بحجرة قبر النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة, وكذلك الذين يتمسحون بالمنبر الذي يقال: إنه منبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي, وكذلك الذين يتمسحون بجدران مقبرة البقيع أو بغير ذلك.
المهم: أن البدع كثيرة: العقدية، والقولية، والفعلية، وكلها من التقدم بين يدي الله ورسوله, وكلها معصية لله ورسوله, فإن الله يقول: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إياكم ومحدثات الأمور) .
ومن البدع ما يصنع في رجب كصلاة الرغائب التي تصلى ليلة أول جمعة من شهر رجب وهي ألف ركعة يتعبدون لله بذلك وهذه بدعة لا تزيدهم من الله إلا بعداً؛ لأن كل من تقرب إلى الله بما لم يشرعه فإنه مبتدع ضال, لا يقبل الله منه تعبده لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
ومن التقدم بين يدي الله ورسوله: أن يقول الإنسان قولاً يحكم به بين عباد الله وليس من شريعة الله, مثل أن يقول: هذا حرام هذا حلال هذا واجب هذا مستحب بدون دليل, فإن هذا من التقدم بين يدي الله ورسوله, وعلى من قال قولاً وتبين له أنه أخطأ فيه أن يرجع إلى الحق, حتى لو شاع القول بين الناس وذاع وانتشر وعمل به من عمل من الناس فالواجب عليه أن يرجع, وأن يعلن رجوعه -أيضاً- كما أعلن مخالفته التي قد يكون معذوراً فيها إذا كانت صادرة عن اجتهاد, فالواجب الرجوع إلى الحق, فإن تمادى الإنسان في مخالفة الحق فقد تقدم بين يدي الله ورسوله.