تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)

يقول الله سبحانه وتعالى مبيناً نعمته على نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وهذا الاستفهام يقول العلماء: أنه استفهام تقرير، واستفهام التقرير يرد في القرآن كثيراً، ويقدر الفعل بفعل ماضٍ مقروناً بقد.

ففي قوله: (ألم نشرح لك) يقدر بأن المعنى: قد شرحنا لك صدرك، لأن الله يقرر أنه شرح له صدره، وهكذا جميع ما يمر بك من استفهام التقرير؛ فإنه يقدر بفعل ماض مقروناً بقد.

أما كونه يقدر بفعل ماض؛ فلأنه قد تم وحصل، وأما كونه مقروناً بقد؛ فلأن قد تفيد التحقيق إذا دخلت على الماضي، وتفيد التقليل إذا دخلت على المضارع، وقد تفيد التحقيق، ففي قول الناس: قد يجود البخيل، قد هنا تكون للتقليل، لكن في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] فهذه للتحقيق ولا شك.

يقول الله عز وجل: (ألم نشرح لك صدرك) أي: نوسعه، وهذا الشرح شرح معنوي ليس شرحاً حسياً، وشرح الصدر أن يكون متسعاً لحكم الله عز وجل: حكم الله الشرعي وهو الدين، وحكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان، وذلك لأن الشرع فيه مخالفة للهوى، فيجد الإنسان ثقلاً في تنفيذ أوامر الله، وثقلاً في اجتناب ما حرم الله؛ لأنه مخالف للهوى، هوى النفس الأمارة بالسوء، التي لا تنشرح لأوامر الله ولا لنواهيه.

تجد بعض الناس تثقل عليهم الصلاة، كما قال الله تعالى في المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] ومن الناس من تخف عليه الصلاة بل يشتاق إليها ويترقب حصولها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة) .

إذاً، فالشرع فيه ثقل على النفوس، أما اجتناب المحرمات، فبعض الناس يهوى أشياء محرمة عليه: كالزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك فتثقل عليه، ومن الناس من ينشرح صدره لترك ذلك ويبتعد عما حرم الله، وانظر إلى يوسف عليه الصلاة والسلام لما دعته امرأة العزيز بعد أن غلقت الأبواب (وقالت: هيت لك) وتهيأت له بأحسن ملبس وأحسن صورة، والجو خالٍ، والمكان آمن أن يدخل أحد، غلقت الأبواب {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ، فقال لها: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] استعاذ بربه، لأن هذه حال حرجة، شاب وامرأة العزيز، ومكان خال وآمن، والإنسان بشر ربما تسول له نفسه أن يفعل، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال لها: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) والشاهد من هذا قوله: (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) .

فأقول: شرح الصدر للحكم الشرعي معناه: قبول الحكم الشرعي والرضا به وامتثاله، وأن يقول القائل: سمعنا وأطعنا، وأنت بنفسك أحياناً تجد قلبك منشرحاً للعبادة تفعلها بسهولة وانقياد وطمأنينة ورضا، وأحياناً بالعكس لولا خوفك من الإثم ما فعلت، فإذا كان هذا الاختلاف في الشخص الواحد فما بالك بالأشخاص.

انشراح الصدر للحكم القدري نقدم على الكلام فيه سؤالاً: هل جميع أحكام الله الكونية ملائمة لطبيعة الإنسان أو لا؟ لا.

الصحة ملائمة، الغنى ملائم، الأمن ملائم، الشبع ملائم، النكاح ملائم، لكن المرض غير ملائم، الخوف غير ملائم، الجوع غير ملائم، وأشياء كثيرة، فالإنسان الذي شرح الله صدره للحكم الكوني تجده راضياً بقضاء الله وقدره، مطمئناً إليه يقول: أنا عبد والله رب يفعل ما يشاء، هذا الرجل الذي على هذه الحال سيكون دائماً في سرور لا يغتم ولا يهتم، هو يتألم لكن لا يصل هذا إلى أن يحمل هماً أو غماً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) .

إذاً: شرح الصدر يعني: توسعته وتهيئته لأحكام الله الشرعية والقدرية، لا يضيق بأحكام الله ذرعاً إطلاقاً، إن نبينا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم له الحظ الأوفر من ذلك، ولهذا تجده أتقى الناس لله، وأشدهم قياماً بطاعة الله، وأكثرهم صبراً على أقدار الله، ماذا فعل الناس به حين قام بالدعوة؟ وماذا يصيبه من الأمراض حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا، من المرض؟ شُدِّد عليه، فكان كرجلين منا، وحتى إنه شدد عليه عند النزع عند الموت عليه الصلاة والسلام، حتى يفارق الدنيا وهو أصبر الصابرين، والصبر معلوم أنه درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر عليه، أما الشيء البارد ليس فيه صبر، لهذا نجد الأنبياء أكثر الناس بلاءً ثم الصالحين الأمثل فالأمثل.

أعود مرة ثانية: ما معنى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] أي: نوسعه لقبول قضاء الله أو حكم الله الشرعي والقدري، وهذا حاصل على الوجه الأكمل بالنسبة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015