فسكن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله ولا يقع عليه اختلاف في خلافته فقال: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" وفي رواية أخرى أنه قال: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبو بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة بها وما نفعني مال أحد قط ما نفعي مال أبي بكر" خرجه الترمذي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن إخوة الإسلام" لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خليل الله لم يصلح له أن يخالل مخلوقا فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح ولا يصلح هذا لبشر كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
ولهذا المعنى قيل: إن إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده ولم يكن المقصود غراقة دم الولد بل تفريغ محل الخلة لمن لا يصلح أن يزاحمه فيها أحد.
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراكا
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر" وفي رواية: "سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر" وفي هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والإستطراق فيه بخلاف غيره وذلك من مصالح المسلمين المصلين في المسجد ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلي بالناس أبو بكر فروجع في ذلك فغضب وقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فولاه إمامة الصلاة دون غيره وأبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة وسد استطراق غيره وفي ذلك إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمة دون غيره ولهذا قالت الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فكيف لا نرضاه لدنيانا ولما قال أبو بكر: قد أقلتكم بيعتي قال علي: لا نقيلك ونستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك.
لما انطوى بساط النبوة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق على وجه الأرض أكمل من درجة الصديقية وأبو بكر رأس الصديقين فلهذا استحق خلافة الرسول والقيام مقامه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب لأبي بكر كتابا لئلا يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمه أنه لا يقع غيره وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وربما كان ترك ذلك لئلا يتوهم متوهم أن نصه على خلافته.