ومن أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة وما لم يلهك فليس متاع الغرور ولكنه بلاغ إلى ما هو خير منه وقال بعض العارفين: كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا وقال أبو سليمان: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه ومطية موصلة إليه لأوليائه فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للإتصال به والإنقطاع عنه.
والقسم الثاني: يشبه حاله حال البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع "فيقتلها حبطا أو يلم" وهو من يأخذ المال بغير حقه فيأخذه من الوجوه المحرمة فلا يقنع منه بقليل ولا بكثير ولا يشبع نفسه منه ولهذا قال: "وكان كالذي يأكل ولا يشبع" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من نفس لا تشبع.
وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له" فمن كان فقره بين عينيه لم يزل خائفا من الفقر لا يستغنى قلبه بشيء ولا يشبع من الدنيا فإن الغنى غنى القلب والفقر فقر النفس وفي حديث خرجه الطبراني مرفوعا: "الغنى غنى القلب والفقر في القلب ومن كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له منها وإنما يضر نفسه" وعن عيسى عليه السلام قال: "مثل طالب الدنيا كشارب البحر كلما زاد شربا منه زاد عطشا حتى يقتله" قال يحيى بن معاذ: من كان غناه في قلبه لم يزل غنيا ومن كان غناه في كبسه لم يزل فقيرا ومن قصد المخلوقين لحوائجه لم يزل محروما ويشهد لذلك كله الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب" لو فكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع ولو تذكر الجائع إلى فضول مآلها لشبع.
هب أنك قد ملكت الأرض طرا ... ودان لك العباد فكان ماذا
أليس إذا مصيرك جوف قبر ... ويحثي التراب هذا ثم هذا
وقد ضرب الله في كتابه مثل الدنيا وخضرتها ونضرتها وبهجتها وسرعة تقلبها وزوالها وجعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في تقلب أحواله ومآله قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ