وفي الموطأ: إنه صلى الله عليه وسلم كان بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر.

فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه خوفا من عقابه ورغبة في ثوابه فشكر الله تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله ولهذا قال بعد ذلك: "إنه إنما ترك شهواته وطعامه وشرابه من أجلي" قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.

لما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه في ترك شهواته قدم رضا مولاه على هواه فصارت لذته في ترك شهواته لله لإيمانه باطلاع الله وثوابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه لكراهة الله لفطره في هذا الشهر وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكره فتصير لذته فيما يرضى مولاه وإن كان مخالفا لهواه ويكون ألمه فيما يكره مولاه وإن كان موافقا لهواه وإذا كان هذا فيما حرم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرم على الإطلاق: كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حق وسفك الدماء المحرمة فإن هذا يسخطه الله على كل حال وفي كل زمان ومكان فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل والضرب ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار.

وقال يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] سئل ذو النون المصري متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمر عندك من الصبر وقال غيره: ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يكرهه حبيبك وكثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه فلهذا كثير منه لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر ومن جهالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته جريا على العادة وقد اعتاد مع ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015