حارةً شديدةً الحرارةِ، حتى أحسستُ كأنَّ شعْر رأسي يتزعزعُ من منابتِهِ لفرطِ وطأةِ الحرِّ، فأحسستُ من فرطِ الغيظِ كأنني مدفوعٌ إلى الجنون، ولكنَّ العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزُّوا أكتافهم وقالوا: قضاءٌ مكتوبٌ. واندفعوا إلى العمل بنشاطٍ، وقال رئيسُ القبيلةِ الشيخُ: لم نفقدِ الشيء الكثير، فقد كنا خليقين بأن نفقد كلَّ شيءٍ، ولكن الحمدُ للهِ وشكراً، فإن لدنيا نحو أربعين في المائة مِن ماشيِتنا، وفي استطاعِتنا أن نبدأ بها عملنا من جديد.
وثمَّة حادثةٌ أخرى.. فقدْ كنا نقطعُ الصحراء بالسيارةِ يوماً فانفجر أحدُ الإطارات، وكان الشائقُ قد نسي استحضار إطار احتياطيٍّ، وتولاني الغضبُ، وانتابني القلقُ والهمُّ، وسألتُ صحبي من الأعرابِ: ماذا عسى أن نفعل؟ فذكَّروني بأن الاندفاع إلى الغضبِ لن يُجدي فتيلاً، بل هو خليقٌ أن يدفع الإنسان إلى الطيشِ والحُمْقِ، ومنْ ثم درجتْ بنا السيارة وهي تجري على ثلاثة إطارات ليس إلا، لكنها ما لبثت أن كفَّتْ عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفَدَ، وهناك أيضاً لم تثرْ ثائرة أحدٍ منْ رفاقي الأعرابِ، ولا فارقهُم هدوؤهم، بل مضوْا يذرعون الطريق سيراً على الأقدامِ، وهم يترنَّمون بالغناءِ!
قد أقنعتني الأعوامُ السبعةُ التي قضيتُها في الصحراءِ بين الأعرابِ الرحَّلِ، أنَّ الملتاثين، ومرضى النفوسِ، والسكيرين، الذين تحفلُ بهم أمريكا وأوربة، ما هم إلا ضحايا المدينةِ التي تتخذُ السرعة أساساً لها.