منْ هذا الضَّنْكِ، وساق لنا التَّنوخيُّ في كتابِه الطويل الشائقِ، أكثَرَ منْ مائتي قصَّةٍ لمن نُكبُوا، أو حُبسُوا أو عُزلُوا، أو شُرِّدُوا وطُردُوا، أو عُذِّبُوا وجُلدُوا، أو افتقرُوا وأملقوا، فما هي إلا أيام، فإذا طلائع الإمداد وكتائب الإسعاد وافتْهم على حين يأس، وباشرتْهم على حين غفلةٍ، ساقها لهم السميع المجيب. إنَّ التنوخيَّ يقولُ للمصابين والمنكوبين: اطمئنُّوا، فلقد سبقكُم فوقٌ في هذا الطَّريقِ وتقدَّمكم أُناسٌ:
صحِب الناسُ قبْلنا ذا الزَّمانا ... وعناهُم مِنْ شأنِهِ ما عنانا
رُبَّما تُحْسِنُ الصَّنِيع ليـ ... ـالِيه ولكنْ تُكدِّرُ الإحْسانا
إذنْ فهذه سُنَّةٌ ماضية {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} . إنها قضيَّةٌ عادلةٌ أنْ يُمحِّص اللهُ عباده، وأنُ يتعَّبدهم بالشّدَّةِ كما تعبَّدهُمْ بالرخاءِ، وأنْ يُغايِر عليهم الأطوار كما غاير عليهم الليل والنهار، فلِم إذن التَّسخُّطُ والاعتراضُ والتَّذمُّرُ {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} .
منْ أجملِ الكلماتِ، قولُ أبي بكرٍ الصِّديق - رضي الله عنه -: صنائع المعروف تقي مصارع السوءِ. وهذا كلامٌ يُصدِّقه النَّقلُ والعقلُ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . تقولُ خديجةُ