خرج أبو ذرٍّ رضي اللهُ عنه وأرضاهُ إلى الرَّبذةِ، فنصب خيمتهُ هناكَ، وأتى بامرأتِه وبناتِهِ، فكان يصومُ كثيراً من الأيامِ، يذكُرُ مولاهُ، ويسبِّحُ خالقهُ، ويتعبَّدُ ويقرأُ ويتلو ويتأمَّلُ، لا يملكُ من الدنيا إلا شمْلةً أو خيمةً، وقطعةً من الغنمِ مع صحْفةٍ وقصْعةٍ وعصا، زارَهُ أصحابُه ذات يوم، فقالوا: أين الدنيا؟ قال: في بيتي ما أحتاجُه من الدنيا، وقدْ أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أمامنا عقبةً كؤوداً لا يجيزُها إلا المُخِفُّ.
كان منشرحَ الصدرِ، ومنثلج الخاطرِ، فعندهُ ما يحتاجُه من الدنيا، أمّا ما زاد على حاجتِه، فأشغالٌ وتبِعاتٌ وهمومٌ وغمومٌ.
قلتُ في قصيدةٍ بعنوان: أبو ذرٍّ في القرن الخامسِ عَشَرَ، متحدِّثاً عنْ غُربةِ أبي ذرٍّ وعن سعادتِه، وعن وحدتِه وعزلتِه، وعن هجرتِه بروحِه ومبادئِه، وكأنه يتحدثُ عن نفسِه:
لاطفُوني هدَّدْتُهم هدَّدُوني ... بالمنايا لاطفتُ حتى أحسَّا
أركبُوني نزلتُ أركبُ عزْمي ... أنزلُوني ركِبتُ في الحقِّ نفْسا
أطرُدُ الموت مُقْدِماً فيُولِّي ... والمنايا أجتاحُها وهْي نعْسَى
قد بكتْ غربتي الرمالُ وقالتْ ... يا أبا ذرٍّ لا تخفْ وتأسَّا
قلتُ لا خوف لم أزلْ في شبابٍ ... مِنْ يقيني ما مِتُّ حتى أُدسَّا
أنا عاهدتُ صاحِبِي وخليلي ... وتلقَّنْتُ منْ أمالِيهِ درْسا