ورأيتُ كريماً آخر في سلالةِ قُتيبة بنِ مسلمٍ القائدِ الشهيرِ، هذا الكريمُ بذل ماله وجاههُ، وواسى المنكوبين، ووقف مع المصابين وأعطى المساكين، وأطعم الجائعين، وكان ملاذاً للخائفين، فلمَّا مات، قال أحدُ الشعراء:
مضى ابنُ سعيدٍ حين لم يبق مشرِقٌ ... ولا مغرِبٌ غلاَّ لهُ فيهِ مادحُ
وما كنتُ أدري ما فواضِلُ كفِّهِ ... على الناسِ حتى غيَّبتْهُ الصَّفائحُ
وأصبح في لحدٍ مِن الأرضِ ضيِّقٍ ... وكانتْ به حيّاً تضِيقُ الصَّحاصحُ
سأبكيك ما فاضتْ دموعي فإنْ تفِضْ ... فحسْبُك مني ما تجِنُّ الجوابِحُ
فما أنا مِنْ رُزْءٍ وإنْ جلَّ جازِعٌ ... ولا بسرورٍ بعد موتِك فارِحُ
كأنْ لم يُمتْ حيٌّ سواك ولم تقُمْ ... على أحدٍ إلا عليك النَّوائِحُ
لئنْ عظُمتْ فيك المراثي وذكْرُها ... لقد عظمتْ مِنْ قبلُ فيك المدائحُ
وهذا أبو نواس يكتبُ تاريخ الخصيبِ أميرِ مِصْرِ، ويسجِّل في دفترِ الزمانِ اسمه فيقولُ:
إذا لم تزُرْ أرض الخصيبِ ركابُنا ... فأيَّ بلادٍ بعدهنَّ تزورُ
فما جازهُ جودٌ ولا حلَّ دونه ... ولكنْ يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ
فتىً يشتري حُسْن الثَّناءِ بمالِه ... ويعلمُ أنَّ الدَّائراتِ تدورُ
ثم لا يذكُرُ الناسُ منْ حياةِ الخصيبِ، ولا منْ أيامِه إلا هذهِ الأبيات.