كيف ندعو الناس (صفحة 152)

أنظارهم وأفئدتهم إلى هدف يتجاوز الحياة الدنيا كلها، والأرض كلها، والزمن كله، ويصل إلى بعد لا يدانيه بعد، وهو اليوم الآخر، وما فيه من بعث ونشور، وحساب وجزاء، وجنة ونار. فوصل العاجلة بالآجلة، وجعل العمل في العاجلة هو وسيلة الوصول الآمن إلى الآجلة، وليس وراء ذلك بعد تعمل من أجله النفوس، ولا مدى تتطلع إليه، وتثابر على القيام بمتطلباته، لأن أي فتور في الطريق قد يقطع الطريق!

ومن جهة أخرى أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والمثل في المثابرة والدأب ومواصلة العمل بجهاده الذي لا يفتر، واستمراره في الدعوة في أحلك الظروف وأصعبها، وعدم الركون إلى اليأس أو التقاعس أو الهمود، في الوقت الذي كانت الظروف كلها تدعو إلى اليأس والتقاعس والهمود.

ومن جهة ثالثة وجه الصحابة رضوان الله عليهم، والأمة من ورائهم، إلى الدأب والمثابرة، ولو بدت الثمرة بعيدة المنال، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها» . (?) وحثهم على مداومة العمل ولو بالقليل دون انقطاع، وكان دائم الاستعاذة من العجز والكسل.

وكان من نتائج هذه التوجيهات كلها في الكتاب والسنة في حياة الأمة المسلمة استمرار الدعوة إلى الله قروناً بعد قرون، واستمرار الجهاد في سبيل الله قروناً بعد قرون، وحضارة شامخة وحركة علمية ضخمة استمرت في واقع الأرض عدة قرون.

وأياً كانت الأسباب التي أدت إلى انحسار الروح الدافعة في حياة المسلمين، وعودتهم إلى طبيعة الفوضى التي تكره النظام، والعفوية التي تكره التخطيط، وقصر النفس الذي يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة، فقد أدت هذه الأمراض إلى مفاسد عظيمة في كيان الأمة، ليس أقلها من يطلق عليه في لغة العصر ((التخلف الحضاري)) ، وليس أقلها موت كثير من المشروعات النافعة قبل أن تؤتي ثمارها، وليس أقلها تبلد الحس على كثير من الأمراض العقدية والفكرية والسياسية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015