الأذى من أجل باطل. إنما لا بد أن يكون حقاً يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله.
بل إن هذا الحق الذي يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته. وحتى من نفسه، حتى من حياته.
تلك المعاني كلها، التي برزت للوجود من خلال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ هي التي أتت بالأنصار من المدينة، حتى وإن لم تغير كثيراً من الأحوال في مكة!
نستطيع أن نقول في عبارة موجزة: إن أهل مكة اصطلوا النار، ولكن أهل المدينة استضاءوا بها عن بعد، فاهتدوا إلى الحق الذي شاء الله لهم أن يهتدوا إليه.
* * *
ولم يكن هذا وحده هو الذي اتضح للأنصار، من خلال كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. لقد اتضح أمر أخر له أهميته البالغة في خط سير الدعوة، وهو قضية ((الشرعية)) .
يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام، وهي سورة مكية: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام: 55) .
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين.
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ} . ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة.
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين: أولاً: بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين.
فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟