العبودية الحقة لله عز وجل تعني في حقيقتها اتجاه الجزء الأكبر من مشاعر العبد نحوه سبحانه، حتى ينعكس ذلك على معاملته له بمقتضى الحال التي يعيشها والأحداث التي يمر بها، ليتمثل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» (?).
هذه هي العبودية الحقة من المؤمن لله عز وجل, أن يعبده سبحانه، وتتجه مشاعره نحوه حسب الحالة التي يمر بها، فتجده يتقلب بين الخوف والرجاء والرضا والفرح والانكسار و ...
أما العبودية الناقصة فهي تتمثل في التركيز على جانب أو جوانب بعينها وترك أخرى، فهذا الأمر له أضرار كثيرة، ومنزلقات خطيرة.
يقول ابن رجب: وقد عُلم أن العبادة إنما تنبني على ثلاثة أصول: الخوف والرجاء والمحبة، وكل منها فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب، فلهذا كان السلف يذمون من تعبد بواحد منها وأهمل الآخرَين.
فإن بدع الخوارج ومن أشبههم إنما حدثت من التشديد في الخوف والإعراض عن المحبة والرجاء.
وبدع المرجئة نشأت من التعلق بالرجاء وحده، والإعراض عن الخوف. وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول - ممن ينسب إلى التعبد - نشأت من إفراد المحبة والإعراض عن الخوف والرجاء (?).
معنى ذلك أن عبادة الله بالمحبة فقط لها مخاطرها ومنزلقاتها.
يقول ابن تيمية: الحب المجرد تتبسط النفوس به حتى تتسع في أهوائها إذا لم يزعها وازع الخشية لله، حتى قالت اليهود والنصاري {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] (?).
لذلك كان مقياس المحبة الصادقة لله عز وجل هو ظهور علاماتها التي بينها الله في كتابه، وبينها رسوله في سنته والتي سيأتي بيانها بشيء من التفصيل في الصفحات القادمة.
يقول ابن تيمية:
فاتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته هي موجب محبة الله، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه هو حقيقتها، كما في الحديث «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» (?).
وكثير ممن يدَّعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف، وعن النهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، ويدَّعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره، لزعمه أن طريق المحبة لله ليس فيه غيرة، ولا غضب لله، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، ولهذا في الحديث المأثور: «يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (?).
فقوله: أين المتحابون بجلال الله، تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه والتحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدود الله، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم (?).
لا بد إذن من التوازن بين ألوان العبودية، وأن نقرأ الأحاديث والأخبار الواردة في كل باب من أبواب العبودية لله فنضعه في حجمه المناسب، وألا نجعل جانبًا يطغى على الآخر.
قال صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم وما عملتم من عمل، ولو علمتم قدر غضبه ما نفعكم شيء» (?).
فكما أنه ينبغي للمسلم أن يفتح لقلبه بابًا لحب الله والرجاء فيه، فعليه كذلك أن يفتح بابًا للخوف منه سبحانه وخشيته.
لا بد من فتح هذين البابين لكي نحقق مراد الله في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} [الذاريات:50].
فمن رجا شيئًا طلبه، ومن خاف شيئًا هرب منه, فعلينا أن نطلب رضا الله ومحبته والقرب منه، ونفر من كل ما يغضبه فنحقق بذلك حقيقة الفرار إلى الله.
أما إذا فتحنا باب الخوف فقط فسيكون الفرار من الله لا إليه، وفي المقابل فإن العكس يخدع النفس ويدفعها للغرور.
قال أبو سليمان: من حَسُن ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف الله فهو مخدوع (?).