وفي يوم من الأيام رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير يمشي وعليه إهاب كبش قد تمنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه، ولقد رأيته بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون» (?).
فالتضحية والجهاد من أعظم دلائل المحبة.
فكلما اشتد الحب اشتد الرجاء في الله وحسن الظن فيه ألا يلقي حبيبه في النار، فالمحب لا يعذب حبيبه كما جاء الرد الإلهي على اليهود عندما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} [المائدة: 18].
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والله، لا يلقي الله حبيبه في النار» (?).
مرض أعرابي فقيل له: إنك تموت. قال: وأين أذهب؟ قالوا: إلى الله. قال: فما كراهتى أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه (?).
وكان سفيان الثوري يقول: ما أُحب أن حسابي جعل إلى والديَّ، ربي خير لي من والدي (?).
وقال ابن المبارك: أتيت سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبته وعيناه تهملان فبكيت، فالتفت إلى فقال: ما شأنك؟ فقلت: من أسوأ أهل الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له (?).
فالمحب الصادق في حبه لله عز وجل يستحي أن يراه حبيبه في وضع مشين، أو مكان لا يحب أن يراه فيه، فإذا ما وقع في معصية أو تقصير سارع بالاعتذار إليه واسترضائه بشتى الطرق.
بل إن أي بلاء يتعرض إليه يجعله قلقًا بأن يكون هذا البلاء مظهر من مظاهر لوم الله له وغضبه عليه، لذلك تجده حينئذٍ يهرع إلى مولاه يسترضيه ويتذلل إليه ويستغفره، ويطلب منه العفو والصفح.
ويتجلى هذا الأمر جيدًا في دعاء رسولنا صلى الله عليه وسلم بعد أحداث الطائف وما تعرض فيها من استهزاء وتضيق وإيذاء، فكان مما قاله لربه « ... إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، لكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة: أن ينزل بي غضبك أو يحل علىّ سخطك، لك العتبي (?) حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
وفي هذا المعنى يقول ابن رجب: إن محبة الله إذا صدقت أوجبت محبة طاعته وامتثالها، وبغض معصيته واجتنابها، وقد يقع المحب أحيانًا في تفريط في بعض المأمورات، وارتكاب بعض المحظورات، ثم يرجع إلى نفسه بالملامة، وينزع عن ذلك، ويتداركه بالتوبة (?).
من الثمار العظيمة للحب الصادق تلك الشفقة التي يجدها المحب في قلبه تجاه الناس جميعًا بخاصة العصاة منهم، وكيف لا وقد علم أنه ما من أحد من البشر إلا وفيه نفخة علوية كرَّمه الله بها على سائر خلقه، وأن الذي يرضيه - سبحانه - هو عودة الجميع إليه ودخولهم الجنة، لذلك تجد هذا المحب شفيقًا على الخلق، حريصًا على دعوتهم لسان حاله يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
يستخدم في ذلك كل الطرق والوسائل الممكنة، ولا يرتاح له بال حتى يُعيد الشاردين إلى حظيرة العبودية لربهم.