ورواه البخاري بلفظ «إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ».
والحديث يدل على مدى تواضعه وأدبه ورقته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو مع أَمَةٍ مِنَ الإِمَاءِ , فهي تمسك بيده , وتمر به في طرقات المدينة , ليقضي لها بعض الحاجات وهو - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - من فرط حيائه وعظيم خلقه , لا يريد أن يزعجها أو يجرح شعورها بنزع يده من يدها , بل يظل سائرًا معها على هذا الوضع حتى تفرغ من قضاء حاجتها.
وقد قال الحافظ في شرح حديث البخاري: «وَالمَقْصُودُ مِنَ الأَخْذِ بِاليَدِ لاَزِمُهُ، وَهُوَ الرِّفْقُ وَالاِنْقِيَادُ، وَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ المُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ لِذِكْرِهِ المَرْأَةَ دُونَ الرَّجُلِ وَالأَمَةَ دُونَ الحُرَّةِ وَحَيْثُ عَمَّمَ بِلَفْظِ: " الإِمَاءِ " أَيَّ أَمَةٍ كَانَتْ وَبِقَوْلِهِ: " حَيْثُ شَاءَتْ " أَيْ مِنَ الأَمْكِنَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالأَخْذِ بِاليَدِ إِشَارَةٌ إِلَى غَايَةِ التَّصَرُّفِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَاجَتُهَا خَارِجَ المَدِينَةِ، وَالتَمَسَتْ مِنْهُ مُسَاعَدَتَهَا فِي تِلْكَ الحَاجَةِ لَسَاعَدَ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذَا [دَالٌّ] عَلَى مَزِيدِ تَوَاضُعِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». اهـ. (?).
وما ذكره الحافظ - رَحِمَهُ اللهُ - مُسَلَّمٌ في جملته , ولكن صرفه معنى الأخذ باليد عن ظاهره إلى لازمه , وهو الرفق والانقياد غير مسلم , لأن الظاهر واللازم مُرَادَانِ مَعًا. والأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره , إلا أن يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن هذا الظاهر. ولا أرى هنا ما يمنع ذلك، بل إن رواية الإمام أحمد ـ وفيها «فَلاَ يَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهَا حَتَّى تَذْهَبَ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ» ـ لتدل بوضوح على أن الظاهر هو المراد , وأن من التكلف والاعتساف الخروج عنه.
إن إغلاق باب المجاز في فهم الأحاديث , والوقوف عند المعنى الأصلي الحرفي للنص , يصد كثيرًا من المثقفين المعاصرين عن فهم السنة , بل عن فهم الإسلام , ويعرضهم للارتياب في صحته إذا أخذوا الكلام على ظاهره في حين يجدون في المجاز ما يشبع نهمهم , ويلائم ثقافتهم , ولا يخرجون به على منطق اللغة , ولا قواعد الدين.