كذلك ثعلب النحوي رحمه الله أحد علماء القرن الثالث الهجري في النحو والبلاغة وفنون أخرى كثيرة، كان يأخذ الكتاب في يديه ويقرأ فيه وهو يمشي في الطريق، أتدرون كيف مات؟ لقد خبطه فرس وهو يقرأ من الكتاب أثناء سيره في الطريق، لا تفعلوا مثله، لكن حاول أن تستغل وقتك فكم من أوقات تضيع في السيارات، لو أنت ركبت السيارة وأتيت بشريط محاضرة أو غيرها فتسمعه وتسمعه الناس، فتكون استفدت ودعوت إلى الله عز وجل، فكم من أوقات تضيع على الناس، فإذا سافرت فخذ معك شريطاً وأعطه لصاحب السيارة لتسمعه أنت ومن معك من الركاب، وكن إيجابياً في التغيير قدر المستطاع.
وهذا الفتح بن خاقان من علماء المسلمين وكان من وزراء المسلمين أيضاً، كان وزير المتوكل أحد خلفاء العباسيين، فكان إذا قام لعمل شيء يأخذ معه كتاباً، ويظل يقرأ في الكتاب وهو يمشي، وكانت لديه مكتبة هائلة، وكان شديد الشغف بالقراءة.
إذاً: الأوقات الصغيرة هذه لو تجمعت مع بعضها لصارت طويلة، وحصل فيها المرء على علم، وأنا جربت هذا الموضوع، فقد كنت فترة من حياتي أعيش في أمريكا، وكنا نقطع مسافات في أمريكا طويلة جداً، ممكن تكون مئات الكيلو مترات، كنا نقطعها يومياً بشكل طبيعي، ويمكن أن يذهب منك وقت هذه المسافة، ولكن بفضل الله كانت هناك مكتبة ضخمة هائلة من الأشرطة موجودة في المسجد الذي كنا فيه، وهي لعلماء مختلفين، بعضهم تسمع عنهم وبعضهم لم تسمع عنهم، وهناك أشرطة نادرة، فكانت هناك ثروة علمية حقيقية، ولم أكن أسافر إلا وقد جهزت برنامجاً للسفر، فكم من العلم الذي أستفيده على مدار السنوات في تلك المسافات الطويلة، كنا نمشي عشر ساعات كل يوم، خمس ساعات ذهاب وخمس ساعات إياب، فإذا لم يكن هذا الوقت مستغلاً ضاع هذا الوقت ولا يعود، فلا أخرج أي مشوار إلا ومعي كتاب أو كتيب، حتى إذا سنحت لي فرصة قرأت؛ لأن في بعض الأوقات تكون عملية جراحية، فتتأخر العملية، فأقرأ وأستغل الوقت.
هناك ناس يظل يقرأ الجرائد الموجودة الآن هذه، حتى يقتل الوقت، أو يظل ينكت ويتكلم في أمور سواء كانت تخاريف أو في المباح، إلى أن يمر الوقت ويأتي الدور عليه ليدخل عيادة الدكتور، أو مكتب المحامي، حفظكم الله من المشاكل، فهذه أوقات كثيرة جداً.
إذاً: أثناء السفر خذ كتابك أو المصحف واقرأ، وإذا خرجت من البيت إلى المسجد تستغفر الله، قد تكون المسافة من البيت إلى المسجد قصيرة جداً، بينهما أربع أو خمس عمارات، فقلت مرة: أعد وأنظر كم سأقول: أستغفر الله، فكانت مائة مرة، وكذلك وأنت ذاهب إلى عملك استغل وقتك، وأنت ذاهب إلى قريبك وجارك، أو خرجت لتشتري جبناً أو غير ذلك استغل وقتك، فنحن حياتنا فيها مليون فراغ بيني، فأنت لو وقفت مع نفسك ستجد عندك فراغات بينية كثيرة، فإذا لم يستغل هذه الفراغات البينية ستكون كارثة بالنسبة له، ويضيع العمر.
كذلك الخليل بن أحمد مبتكر علم العروض، وهو من أبرع علماء اللغة رحمه الله، كان يقول: أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها؛ لأنه لم يكن بجواره أحد يقرأ له، فكان يمر عليه الوقت، وقد يكون هذا الكلام مبالغاً فيه، لكن كيف أصبح الخليل بن أحمد؟ وكيف اشتهر الطبري، وكذلك ابن الجوزي ما الذي جعل لهم هذه القيمة؟