هذا مكحول رحمه الله من التابعين، كان عبداً يُباع ويُشترى، يقول: أُعتقت بمصر فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه، ومصر أتاها الكثير من الصحابة والتابعين، وعاش فيها الكثير من العلماء، فكل علم هؤلاء حواه مكحول رحمه الله، هل اكتفى؟ لا، فطالب العلم لا يشبع أبداً، ثم يقول: ثم أتيت العراق ومن بعدها المدينة فلم أدع بهما علماً إلا حويته، وكم من الصحابة الذين ذهبوا إلى العراق وكانوا في المدينة المنورة، ومع ذلك فقد حوى علم المدينة وعلم العراق، ثم يقول: ثم أتيت الشام فغربلتها.
وهذا بشر مثلنا، ولكن عنده طموح عال جداً، وأظنه لو حوى علم مصر لكان كفاية وسيبقى من علماء الأمة ويشار له بالبنان، ويحمد إن شاء الله عند رب العالمين مع صلاح نيته، لكن هذا ليس كافياً عنده، فيذهب إلى العراق وإلى المدينة، وبعد هذا يذهب إلى الشام ويغربل الشام، لا يترك ركناً أو بقعة في الشام إلا وذهب إليها بحثاً عن العلم رحمه الله، وقد كان عبداً يُباع ويُشترى، وليس إنساناً ميسوراً، وإنما هو مسكين وفقير جداً، ومن أفقر المسلمين في زمانه، ومع ذلك فهو من أعلم المسلمين في تاريخ الأمة.
وهذا الشافعي رحمه الله يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، إذا كان حفظه للقرآن في سن سبع سنين فعندنا كثير ممن يحفظ القرآن في هذا السن؛ لأن من إعجاز القرآن أن حفظه ميسر؛ لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، لكن كونه يحفظ الموطأ في سن العاشرة فهذا صعب جداً، فالموطأ ليس كتاباً في الحديث فحسب وإنما هو حديث وفقه، فمن الصعب جداً أن يُحفظ، ويكاد في زماننا أن نقول: مستحيل، فهذا يدل على وجود بركة وصدق، ولم يكن وضعه مستقراً، ولم تكن عنده أم غنية أو أب غني ينفقان عليه؟ اسمع لقوله عن نفسه: ولم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به قراطيس لأكتب عليها، فكنت أسير في شوارع المدينة فإذا رأيت عظماً يلوح لي من بُعد أخذته فكتبت عليه، ثم طرحته في جرة قديمة لنا.
هذا هو الشافعي رحمه الله، وكان يدخل المساجد وهو في الثالثة عشرة من عمرة يناظر العلماء رحمه الله، وعندما أصبح في سن الثالثة عشرة بدأ يكثر العلم ويريد أن يكتب ويكتب، والعظم لا يكفي، فحالته صعبة فهو فقير مُعدم، لكن ليس هناك عائق أمامه ليتعلم رحمه الله، فإذا أراد أوراقاً ليكتب عليها ذهب إلى الديوان.
أي: ديوان الحاكم أو الوزارة أو الإمارة فيستوهب الظهور، أي: أنه يريد هبة ظهور الورق المكتوب أمامه فيكتب على ظهور الأوراق، فهذا هو الشافعي رحمه الله.
وفي الأخير أصبح الشافعي إمام المسلمين بهذه المعاناة التي عاناها رحمه الله.
أيضاً الإمام أحمد بن حنبل كانت قصته شبيهة بقصة الإمام الشافعي رحمه الله، فقد كان طفلاً صغيراً جداً ابن خمس سنوات أو ست سنوات، ويريد أن يذهب إلى المسجد ليتعلم، وأمه تخاف عليه فتقول له: لا تخرج إلى المسجد إلا بعد أذان الفجر، وهو مصر على الخروج قبل أذان الفجر، فكل يوم تتمسك به، وهو يستيقظ مبكراً قبل الفجر ليذهب إلى المسجد، ليدرك مكاناً في الصفوف الأولى، حتى يسمع العالم الذي يتحدث بعد صلاة الفجر يعلّم الناس، وبعد أن كبر اطمأنت أمه عليه وعلمت أنه يستطيع أن يخرج إلى المسجد قبل أذان الفجر، وقال ذات مرة: لو كان معي خمسون درهماً لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد رحمه الله.
وكان من العلماء، فهو يريد أن يتعلم على يديه، ولكن يريد لقطع المشوار إليه خمسين درهماً وليس لديه رحمه الله، وذكرنا حاله قبل ذلك فقد كان يعمل حمّالاً في اليمن، وكان يعمل في أعمال بسيطة جداً، وهو خير أهل الأرض في زمانه رحمه الله.
وهذا سفيان الثوري رحمه الله حينما أراد أن يتعلم قال: يا رب لا بد لي من معيشة، فأمه النجيبة الفاهمة الواعية وهذا الكلام موجه لأخواتنا، واذكرن السؤال الذي سبق في قضية العلم: ماذا نعمل في قضية العلم؟ وقلنا: إن الدور الرئيسي للمرأة: الزوج والأولاد، وهناك أدوار أخرى كما فصّلنا قبل ذلك.
فأم سفيان الثوري قالت له: يا بُني تفرغ للعلم وأكفيك بالمغزل، وبدأت تشتغل رحمها الله بالمغزل لتبيع أشياء يسيرة جداً بدراهم معدودات، واستمر في بحثه على العلم وطلبه له حتى صار سفيان الثوري رحمه الله من عظماء أتباع التابعين.
وهذا البخاري رحمه الله، وكنت أتمنى أن ييسر الله عز وجل لنا وقتاً فنُفرد له درساً خاصاً، ومن الصعب أن نتحدث عن البخاري في هذه العجالة، فهو من خير أئمة المسلمين رحمه الله، وهو صاحب أعظم كتاب سُنة وأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل على وجه الأرض، وهو صحيح البخاري.
حضر البخاري رحمه الله دروس العلم، فلم يبلغ من العمر (16) سنة حتى حفظ