لقد كان بقي بن مخلد من علماء الأندلس وكان فقيراً ليس عنده مال، لكن عنده علم كثير وعنده همة عالية، فهو عندما علم أن العلم موجود في الشرق، وسمع عن شخص اسمه أحمد بن حنبل رحمه الله وأنه أعظم وأعلم أهل الأرض في زمانه، وإمام أهل السنة والجماعة رحمه الله، وأنه يسكن في بغداد، وبقي بن مخلد في الأندلس، التي هي في هذا الوقت أسبانيا والبرتغال، فهو فقير وليس عنده مال، فماذا عمل؟ قال: اشتغل بجد واجتهاد من أجل أن أحصل على بعض الأموال التي تكفي مئونة بعض الأيام، فأنتقل بها من مدينة إلى مدينة، فإذا وصلت إلى المدينة الثانية عملت فيها حتى أتكسب بعض المال الذي يكفيني إلى المدينة الأخرى وهكذا حتى أصل إلى بغداد، خرج سيراً على الأقدام من الأندلس، ثم المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، فلسطين، الأردن، بعد كل هذا العناء والتعب وصل إلى العراق مشياً على رجليه، بقي في الرحلة سنتين يمشي على رجليه، فلما وصل إلى بغداد سأل قال: أليست هذه البلد التي فيها أحمد بن حنبل قالوا: نعم، لكن أحمد بن حنبل محبوس.
انظروا له سنتان يمشي حتى وصل إلى بغداد فيجد الإمام أحمد محبوساً!! ليس هذا فحسب، بل بعد أن خرج الإمام أحمد من السجن منعوه من التدريس، ومنعوه من الخطابة، فجلس في بيته تحت الإقامة الجبرية وعليه رقابة من الأمن، فالإمام أحمد بن حنبل يمنع من التدريس خوفاً على الناس من الفتنة، فـ بقي بن مخلد لما رآه ممنوعاً من التدريس بحث عن شيخ آخر يأخذ منه دروساً، فقالوا له: هذا يحيى بن معين من أعظم علماء المسلمين، فهو إمام المسلمين في الجرح والتعديل وفي علم الرجال وأسانيد الأحاديث، فذهب يسأله ويتعلم منه.
ويحيى بن معين رحمه الله عندما تسأله وتقول له: فلان من رجال الحديث يقول: نعم هو ثقة، وهذا صدوق، وهذا كذاب، وهذا وضاع فهو يجرح ويعدل فذهب بقي يتعلم، فلما دخل على يحيى بن معين المسجد وجد زحاماً، فلم يصل إليه إلا بعد أيام، يقول: كنا نذهب إلى المسجد بعد صلاة العصر من أجل أن أحجز مكاناً لفجر اليوم التالي.
كيف كان يتصرف؟ هل كان يضع المفتاح مكانه؟ الله أعلم، المهم أنه كان يجلس في مجلس يحيى بن معين قبل الدرس بنصف يوم؛ من أجل أن يضمن السماع؛ لأنه لم يكن هناك (ميكرفونات) نحن في نعمة، والله لتسألن عن النعيم، سنسأل عن هذا النعيم، في هذا الوقت عندنا أشرطة، وكتب، وسيديهات، وكمبيوتر، وفضائيات، وبرامج، وخطب ومساجد، وحلقات، ومع ذلك كله تزهد الناس في العلم.
وذكرنا أن جابر بن عبد الله ذهب إلى الشام من أجل حديث واحد، والواحد منا يكسل أن يذهب إلى المكتبة القريبة من أجل أن يأتي بحديث ويكسل أن يبحث عن مسألة، لكن بقي بن مخلد ذهب إلى مجلس يحيى بن معين فبدأ يسأله، جاءت له الفرصة أخيراً بعد أيام تبكير وحجز، فقال له: ماذا تقول في فلان؟ فقال: هذا صدوق، وفلان؟ هذا ثقة، وفلان؟ هذا كذاب، فظل يعدل ويجرح، فقال بقية الطلبة: حسبك، نحن نريد أن نسأل أيضاً، لست وحدك في المسجد، أعطنا فرصة، فقال لهم: أنا لي سنتان أمشي من بلادي حتى وصلت إلى هنا من أجل أسأل، فقام وسأل السؤال الأخير: ما تقول في أحمد بن حنبل؟ فقال: مثلي يسأل عن أحمد بن حنبل، هذا إمام المسلمين وخير المسلمين وأفضل المسلمين، فلما سمع هذا الكلام قال: أنا لابد أن أصل إلى أحمد بن حنبل هذا، فماذا عمل حتى يصل إلى الإمام أحمد؟ قام ولبس لبس متسول، وربط على رأسه خرقة، وأمسك عصاً بيده، ثم ذهب يسأل: أين بيت أحمد بن حنبل؟ فدل عليه، لكن الرقابة خارج المنزل، فذهب يدق الباب، ففتح له أحمد بن حنبل، وقال له: أنا سائل.
فقال له الإمام أحمد: ادخل أعطك شيئاً، فلما اختلى به قال له: يا إمام أنا قدمت من بلاد بعيدة، قدمت من المغرب من الأندلس، جئت أتعلم فوجدتك في هذه الحالة التي ترى، فهل تأذن لي أن آتيك كل يوم بهذا اللباس وأنا غريب عن البلد ولا يعرفني أحد، فتحدثني الحديث أو الحديثين؟ انظر إلى أي درجة وصل به الأمر من أجل أن يأخذ حديثاً وحديثين وثلاثة.
والآن مسند أحمد بن حنبل موجود عندنا في كل المكتبات، اذهب وافتح وتعلم العلم الذي جعل بقي بن مخلد رحمه الله يسافر سنتين سيراً على الأقدام؛ من أجل أن يتعلم في كل يوم حديثاً.
ومسند أحمد بن حنبل فيه (30000) حديث غير مكرر، وهو مسند ضخم من أعظم المسانيد التي فيها أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فـ أحمد بن حنبل رحمه الله وافق وأذن له، مع أنه قد يتعرض لخطر عظيم، لكن هذا شخص أتى من الأندلس ليعلمه، فظل كل يوم يدخل