لقد كان محمد بن عبدوس رحمه الله من علماء الأمة وقد صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة.
يعني: أنه لا ينام؛ لأن النوم ينقض الوضوء، قد تقول: هذا تشدد، نقول: نحن نريد أن نطرح أمثلة عليا، من أجل أن نعمل بنصفها أو ربعها، أنا لا أقول لك: لا بد أن تعمل مثل محمد بن عبدوس، فـ ابن عبدوس صلى الصبح بوضوء العشاء (30) سنة، (15) سنة دراسة، و (15) سنة عبادة، كان يبقى من بعد صلاة العشاء يذاكر العلم إلى الفجر وهو محافظ على وضوئه، ثم يذهب ويصلي الفجر بوضوء العشاء.
وهذا عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله أحد تلامذة الإمام مالك رحمه الله، كان يذهب إليه في الليل فيسأله مسائل، ويجد عند الإمام مالك في ذلك الوقت انشراح صدر، فيجلس ليعلمه حديثاً واثنين وثلاثة وعشرة، وفي يوم من الأيام كان يريد أن يسأله عن أحاديث، لكنه جاء إليه في وقت متأخر جداً فاستحى أن يدخل عليه، فنام على باب بيته، فخرج الإمام مالك فرآه نائماً، فأيقظه فلم يستيقظ، فذهب إلى المسجد، فخرجت جارية من الجواري من البيت توقظه وتقول له: قم يا غفلان، الإمام غدا إلى المسجد، تقول الجارية: الإمام مالك له إلى الآن (49) سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، (49) سنة حتى أصبح الإمام مالك من كبار علاء المدينة، وأصبح لا يفتى ومالك في المدينة.
ومذهب مالك من المذاهب المعتبرة في بقاع العالم الإسلامي المختلفة، وإلى الآن يتعبد إلى الله عز وجل الكثير والكثير من المسلمين على فقهه وعلى مذهبه رحمه الله، هذا يدل على أنه قد قدم الكثير.
وكان الإمام مالك من أغنى المسلمين، لكن لم يكن يحتفظ بالمال، بل كان يأتي إليه طلبة العلم ليعلمهم، فكان يأتيه طلاب من بلاد بعيدة فيستضيفهم ويطعمهم وينفق عليهم، وفي آخر حياته باع الخشب الذي في سقف بيته من أجل أن ينفق على طلبة العلم، وأنفق كل المال الذي معه على طلبة العلم.
انظر إلى القيمة العليا للعلم في نظره، لو كان يرى أن هذا المال ينفق على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وما إلى ذلك أفضل لكان أنفقه في هذه الوجوه، لكنه يرى إنفاقه على العلم أفضل، كما قلنا من قبل في درس سابق: المسلمون في هذا الوقت بفضل الله عندهم صحوة إسلامية وحمية وينفقون، لكن نادر جداً الذي ينفق على العلم، ننفق على موائد الرحمن وهذا طيب، وننفق على فلسطين وهذا رائع، وننفق على اليتامى والمساكين وبناء المساجد وهذا رائع جداً، لكن من الذي ينفق على العلم؟ من الذي يعطي العلم هذا القدر من الاهتمام؟ قليل، ولا تقوم الأمة إلا بالعلم، فينبغي لنا أن نهتم بأسباب قيام الأمم.
وهذا البخاري أيضاً كان يذهب لينام فيذكر مسألة وهو على سريره فيقوم ويكتبها، يخاف أن ينساها، ثم ينام، ويذكر مسألة أخرى فيقوم ويكتبها، وثالثة ورابعة، يقول ابن كثير رحمه الله في التاريخ عندما تحدث عن البخاري قال: فيزيد عدد مرات قيامه في الليلة الواحدة على (20) مرة.
(20) مرة يقوم في الليلة الواحدة من أجل أن يسجل معلومات تنفع الأمة حتى صار كتابه أصح كتاب في الأرض بعد كتاب الله عز وجل بإجماع علماء المسلمين، هذه هي قيمة البخاري.
وهناك أناس تكتب في الجرائد على البخاري وما وصلت إلى ظفر قدمه الأصغر، ويقول أحدهم في كلمة: فليقل البخاري ما يقول.
يعني: كأنه يقول من نفسه، وكأنه لم يكن عنده منهج علمي واضح يمشي عليه، وقد حج كل من عارضه، لقد عارض بعض الناس البخاري في بعض الأحاديث وقالت: الصواب كذا وكذا، وليس الصواب كما كتب البخاري فحجها الإمام البخاري كان الصواب في جانبه فأقر الجميع أنه من أعظم علماء الأمة، وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
هذا الكتاب لم يأت من فراغ، فـ البخاري كان يحفظ ستمائة ألف حديث.
من المصلحة أن نفرد حديثاً خاصاً بـ البخاري؛ من أجل ألا تحرموا الفوائد التي كانت في حياته رحمه الله، وأنا كلما أذكر شيئاً عن البخاري أراه معجزة، لقد كان البخاري بآلاف الرجال، فالله سبحانه اصطفاه حتى جعل كتابه أعظم كتب السنة مطلقاً، فهذا الرجل قدم كثيراً، لم يكن يكتب حديثاً واحداً في صحيحه إلا بعد أن يقوم يتوضأ ويصلي ركعتين استخارة، ثم يكتب الحديث الواحد، وكتابه فيه (7000) حديث بالمكرر، ومن غير المكرر (2612) هذا جهد ضخم من (600) ألف حديث غربل هذا الكتاب العظيم صحيح البخاري.
لا يقل أحد: أنت أطلت، لا، نحن نجلس مع العلم، وقلنا: لا توجد راحة جسم ولا نوم في العلم، بل سهر في طلب العلم، ومجلسكم هذا في سبيل الله، لو كنت ستذهب إلى شيء أعظم من العلم فاذهب، أما أن تذهب لتنام قليلاً أو لتشاهد التلفاز فلا،