الدليل العاشر: آخر شيء نذكره في هذا المضمار: أنك إذا راجعت التاريخ الإسلامي ستجد دائماً أن عهود القوة مربوطة بالتفوق في العلوم الشرعية والحياتية، لا يوجد عندنا كما كان عند أوروبا من اضطهاد للعلماء، لماذا أوروبا الآن تنادي بالعلمانية؟ وعلمانية يعني: لا دينية، الإنسان العلماني يقول: لا دين، قضية الدين هذه قضية غير مقبولة، لماذا أوروبا كلها تنادي بالعلمانية؟ لأن الكنيسة الأوروبية الكاثوليكية كانت شديدة وقاسية على العلماء، فقد أوقفت حركة العلم في أوساط القرن السادس عشر عند أول ظهور الحركة العلمية والثورة العلمية، فبدأت الكنيسة تضاد وتحارب هذه الحركة العلمية بمنتهى القوة.
وأنتم تعرفون محاكمات كوبرنيكوس ومحاكمات غاليليو، كوبرنيوكوس هذا هو الذي اكتشف أن الأرض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، وأن الشمس هي مركز الكون وليست الأرض كما كان معتقداً قبل ذلك، وهذا الكلام كان مخالفاً للأفكار التي عند الكنيسة، فقالوا له: كيف تقول: إن الأرض تدور؟ يعني: أنا أستيقظ في الصبح وأجد محلي قد انتقل من مكان إلى آخر، هذا ليس من المعقول، أليس كل شيء ثابت حولنا؟ خالف فكرهم فاضطهدوه إلى درجة أنهم هددوه بالقتل فهرب من البلد، وحرقوا كل كتبه ومنعوا تدريسها في كل البلاد، ولم يكتشف أن علمه هذا صحيح إلا بعد عشرات بل مئات السنين من وفاته.
وغاليليو حكم عليه بأنه يحبس في بيته إلى أن يموت، وغيرهم وغيرهم ما بين سنة (1481م) إلى (1499م) يعني: في غضون ثماني عشرة سنة قتل في أوروبا تسعون ألف عالم، من أجل هذا صاروا علمانيين؛ لأن الدين عندهم اضطهدوا العلماء، لكن نحن في ديننا -راجعوا التاريخ الإسلامي- ليس كذلك، نحن في تاريخنا علماء الحياة كعلماء الشرع، كانوا مقربين جداً من العامة ومن الحكام في الأغلب الأعم، نعم توجد هناك حالات شاذة كما تحصل في أي مجتمع، لكن الأغلب الأعم أن هؤلاء العلماء كانوا مقدمين ولهم مكانتهم، فعلى سبيل المثال: الخليفة العباسي المشهور المأمون كان إذا ترجم عالم من العلماء كتاباً من لغة غير عربية إلى اللغة العربية أعطاه وزن هذا الكتاب ذهباً، تترجم كتاب كيمياء روماني، أو تترجم كتاب طب مصري، الطب القديم للفراعنة، أو تترجم كتاباً هندياً أو كذا يوزن هذا الكتاب وتعطى ذهباً بوزن الكتاب الذي ترجمته.
ماذا عن أخبار الترجمة عند البلاد الإسلامية؟ ترجم اليهود مائة كتاب سنوياً لكل مائة ألف مواطن، أما العالم العربي كله فيترجم ثلاثة كتب لكل مائة ألف مواطن.
انظروا إلى هذه المقارنات! اليهود تترجم مائة كتاب إلى اللغة العبرية لكل مائة ألف مواطن، وهم خمسة أو ستة ملايين، كل ذلك؛ من أجل أن ينقلوا لهم العلم الإنجليزي والفرنسي والصيني والياباني وغيره، بينما في العالم العربي كله، كل هذه الدول وهذه الأموال الرهيبة المكدسة لا يترجمون سوى ثلاثة كتب لكل مائة ألف مواطن، هذا قليل جداً، لكن المأمون كان يعطي المترجم وزن الكتاب ذهباً؛ من أجل نشاط حركة الترجمة، فنقلت إلينا علوماً هائلة، أين التشجيع على هذا الأمر؟ هذا في غاية الأهمية يا إخواني! وهذا أبو يعقوب يوسف المريني من هذا أبو يعقوب يوسف المريني؟ الناس التي لم تسمع عن الأندلس لا تعرفه، أبو يعقوب يوسف المريني هذا كان زعيم دولة بني مرين كانت في المغرب، وكان رجلاً من عظماء قواد المسلمين في التاريخ -لعل الكثير لم يسمع عن أبي يعقوب يوسف المريني وكان قد أسر مجموعة من الصليبيين في إحدى المعارك فقام بمبادلات مع جيش الصليبيين، بادلهم الأسرى بكتب إسلامية كان الصليبيون قد أخذوها من مكتبة قرطبة لما دخلوها، وحفظ هذه الكتب التي كان فيها معظم علم الأندلس.
انظروا إلى الفكر الذي كان عنده.
أيضاً خلفاء المسلمين في الدولة العباسية يسقطون الجزية عن النصارى واليهود في البلد إذا قاموا بالترجمة، واشتغلوا بالعلوم، وكانوا يردون الأسرى إلى الصليبيين في القسطنطينية وفي غيرها، على أن يسمح لعلماء المسلمين أن يذهبوا إلى المكتبات هناك فيترجموا الكتب التي عندهم.
هذا يدل على قيمة العلم في تاريخ الحضارة الإسلامية.
رأينا محاكمة كوبرنيوكوس ومحاكمة غاليليو.
انظروا إلى محاكمة عباس بن فرناس رحمه الله، عباس بن فرناس من علماء المسلمين الأفاضل المشهورين في الأندلس، كان عالماً في العلوم الحياتية، وكان مبتكراً ومبدعاً في أمور كثيرة، ليس فقط في محاولة الطيران، لكن كان عنده أكثر من اختراع، وكان مقرباً للخلفاء في زمانه، والخليفة الموجود في زمانه هو عبد الرحمن بن هشام الأموي وهذا العالم عباس بن فرناس كان له حساد، فذهبوا إلى الخليفة واتهموه بالسحر والشعوذة، وقالوا: يخرج من بيته دخان فهو يخلط أشياء بأشياء ويقول كلمات عجيبة