المكتبات في الحضارة الإسلامية تنقسم إلى نوعين رئيسيين: الأول: المكتبات العامة، والثاني: المكتبات الخاصة.
المكتبات العامة: هي التي تفتح للجمهور، ويحضر فيها عموم طلبة العلم والعلماء يأتون إليها من كل مكان؛ ليدرسوا في داخل المكتبة.
والمكتبات الإسلامية كانت المكتبات الأولى على مستوى العالم، لا لعدة سنوات، ولكن لعدة قرون متتالية، فمكتبة بغداد كانت المكتبة الأولى على مستوى العالم لمدة خمسة قرون متتالية، أي: (500) سنة، وكان فيها كم هائل لا يتصور من الكتب، فمهما وصفنا لك ومهما حسبت فلن تستطيع أن تصل بدقة إلى عدد الكتب التي كانت في مكتبة بغداد، ولكي تتصور مقدار هذا الكم من الكتب تصور معي نهر دجلة، فهذا النهر يقرب من نهر النيل في المساحة من حيث العرض، فهو نهر ضخم وكبير، وعندما جاء التتار واحتلوا بغداد أرادوا أن يعبروا من البر الشرقي إلى البر الغربي قلم يستطيعوا ولم يكن هناك جسر، فماذا فعلوا؟ ذهبوا إلى مكتبة بغداد وكانت مطلة على نهر دجلة، فأخرجوا الكتب من المكتبة وألقوها في النهر حتى صنعوا منها جسراً تمر عليه الجيوش التترية من الشرق إلى الغرب، فتصور مكتبة بها كتب يتكون منها جسر لا يمر عليه إنسان، بل يمر عليه جيش! وجيش التتار من أعظم الجيوش وأكثرها عدداً في ذلك الوقت، فهذا شيء مهول.
وليست الكتب في مجال واحد من علوم الشريعة أو علوم الحياة، بل في كل مجال.
وكانت المكتبة تُقسّم إلى أقسام: قسم لعلوم الفقه، وقسم لعلوم الحديث، وقسم لعلوم العقيدة وهكذا، وقسم لعلوم الطب، وعلوم الفلك، وعلوم الهندسة، أقسام مختلفة، وكان فيها قاعات للمناظرات، وقاعات للمحاضرات والندوات، وكانت فيها أماكن مخصصة للترفيه، إذا أراد الإنسان أن يأخذ قسطاً من الراحة، أن يشرب مشروباً ويستريح قليلاً من عناء الدراسة والتعب، فهناك ركن مخصص لذلك، وفيها أماكن للتعليم تلقى فيها محاضرات منتظمة للتعليم في شتى الفروع، وفيها أماكن للمبيت، فقد كان يستضاف فيها طلبة العلم الذين يأتون من بلاد بعيدة، وتُجرى عليهم الأرزاق، أي: أن الخليفة يُخرج الأموال الثابتة للإنفاق على هؤلاء الذين يأتون إلى مكتبة بغداد؛ ليتعلموا، فالطالب يُنفق عليه وهو يتعلم ويقرأ في مكتبة بغداد، وفيها وظائف النسّاخين، ووظائف الباحثين عن الكتب؛ لأن المكتبة ضخمة جداً وهائلة، ولا تستطيع أن تصل إلى ما تريد بسهولة، فأصبح هناك أناس عملهم أن يبحثوا عن الكتب، أو تنسخ ما تريد، كانوا في زمن ليست فيه طباعة، فانتشرت حركة العلم بشكل مهول، وأصبحت مكتبة بغداد كما ذكرت هي المكتبة الأولى عالمياً.
المكتبة الثانية على مستوى العالم: مكتبة دار العلم في القاهرة، وهذه المكتبة يكفي أن أذكر لكم أنه كان فيها (40) قسماً للكتب، كل قسم مختص بفرع من فروع العلم، ولكي تعرف تفريغ الكتب التي بداخلها يجب أن تعرف أن كل قسم على الأقل فيه (18000) كتاب في كل فرع من فروع العلم، أي عند جمعها فهي أكثر من سبعمائة ألف كتاب في مكتبة واحدة، وهذا شيء مهول! المكتبة الثالثة على مستوى العالم: مكتبة قرطبة، وأوروبا في ذلك الوقت لا توجد بها مكتبات لا من قريب ولا من بعيد، ولا تقارن بمكتبة أصغر قرية من قرى المسلمين في ذلك الوقت.
مكتبة قرطبة كان بها نصف مليون كتاب في شتى فروع العلم، ولم تكن المكتبة الوحيدة في قرطبة، فقد كان هناك أكثر من مكتبة في قرطبة، ففي قرطبة أيضاً المكتبة الأموية وهي على نفس مستوى مكتبة قرطبة من حيث العظمة والفخامة واتساع العلوم.
فالعلماء المسلمون كانت لهم مكانة عظيمة جداً، وكان خلفاء المسلمين ينفقون الأموال الغزيرة للإتيان بالكتب من كل مكان، حتى الكتب المترجمة، وكما ذكرنا في درس من الدروس السابقة أن المأمون كان يزن الكتاب المترجم من اللغات غير العربية إلى اللغة العربية ثم يعطي هذا الوزن لمن ترجمه ذهباً.
إذاً: حوت المكتبات الإسلامية مجموعة هائلة من الكتب النادرة، ليس فقط من كتب المسلمين، ولكن من كتب المسلمين وغير المسلمين في ذلك الزمن.
عندما احُتلت قرطبة من الصليبيين في أسبانيا أُحرقت معظم الكتب في مكتبة قرطبة، ففي يوم واحد قام أحد القساوسة الصليبيين وكان اسمه كمبيس فأحرق (80000) كتاب في ميدان من ميادين قرطبة، ومكتبة بغداد كما سمعتم كل الكتب أُغرقت في نهر دجلة حتى تحول لون النهر إلى الأسود من لون المداد الذي كتبت به هذه الكتب، كميات هائلة من العلوم أغرقت في مياه دجلة من التتار.
ومكتبات طرابلس الشرق التي في لبنان كانت من أعظم المدن العلمية في تاريخ العالم بأسره، ويذكر أن الصليبيين عندما دخلوا مدينة طرابلس فأول شيء فعلوه هو دخولهم المكتبات الإسلامية في طرابلس، وأحرقوا في عدة أيام ثلاثة ملايين كتاب إسلامي في شتى فروع العلم.
انظروا إلى الحقد الدفين عند أولئك الذين يغزون العالم الإسلامي، فالتتار في بغداد أغرقوا الكتب الإسلامية، والصليبيون في قرطبة أحرقوا الكتب الإسلامية سواء كانت كتباً علمية في علوم الحياة،