زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت، وأبو سعيد وغيرهم، كما أخرجه مسلم ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئًا أثم ولا جزاء عليه، في رواية لأحمد وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم، وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك، وقال القاضي عبد الوهاب: إنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء، وهو كما في حرم مكة، وقيل: الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، وفي رواية لأبي داود من وجد أحدًا يصيد في حرم المدينة فليسلبه، قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم، واختاره جماعة معه وبعده، لصحة الخبر فيه ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل، وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة ودعوى الإجماع مردودة، فبطل ما ترتب عليها، قال ابن عبد البر: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، ولأبي داود عن أبي حسان، عن عليّ نحوه، وقال المهلب: في حديث أنس دِلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانًا مثلًا فلا يمتنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه، وقيل: بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع للآدمي فيه، كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة، وعلى هذا يحمل قطعه عليه الصلاة والسلام النخل وجعله قبلة المسجد، ولا يلزم منه النسخ المذكور.
وقوله: "من أحدث فيها حدثًا" زاد شعبة وحماد بن سلمة عن عاصم عند أبي عوانة: "أو آوى محدثًا" وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصمًا لم يسمعها من أنس كما يأتي بيانُ ذلك في كتاب الاعتصام.
وقوله: "فعليه لعنة الله" فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين، وفيه: أن المُحْدث والمؤوي للمُحْدِث في الإثم سواء، والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل، أو ما هو أعم من ذلك، قال عياض: واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله، قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر.