الوجوب. كما أن الصلاة والزكاة لا ترتيب بينهما في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى في هذا الحديث، ورتبت الأُخرى عليها بالفاء، ولا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة.
وقيل: الحكمة في ترتيب الزكاة على الصلاة أن الذي يُقر بالتوحيد ويجحد الصلاة، يكفر بذلك، فيصير ماله فيئًا، فلا تنفعه الزكاة، وأما قول الخطابيّ: إن ذكر الصدقة أُخّر عن ذكر الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، وأنها لا تُكَرَّر تَكَرُّرَ الصلاة فبدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النَّفْرة - فهو حسن، والمختار الذي هو قول المحققين والأكثرين أنهم مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به، والمنهي عنه. وقيل: ليسوا مخاطبين، وقيل: مخاطبون بالمنهي دون المأمور، وقال شمس الأمة: لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بُعث إلى الناس كافةً، ليدعوهم إلى الإيمان. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، ولا خلاف أنهم مخاطبون بالمشروع من العقوبات، ولا خلاف أن الخطاب بالمعاملات يتناولهم، ولا خلاف أن الخطاب بالشرائع يتناولهم في حكم المؤاخذة في الآخرة، وأما في وجوب الأداء في أحكام الدنيا، فمذهب العراقيين أن الخطاب يتناولهم أيضًا، والأداء واجب عليهم، وقيل: إنهم لا يخاطبون بأداء ما يحتمل السقوط من العبادات.
وفيه أن مَنْ ملك نصابًا لا يعطي من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيًا، وقابله بالفقير ومن ملك النصاب، فالزكاة مأخوذة منه فهو غني، والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا مَنْ استثنى. قال ابن دقيق العيد: ليس هذا البحث بالشديد القوة، وهو قول الحنفية، واستدل به مَنْ لا يرى على المديون زكاة ما بيده إذا لم يفضل عن الدين الذي عليه قدر نصاب؛ لأنه ليس بغني إذا كان إخراج ماله مستحقًا لغرمائه، وهذا مذهب المالكية في زكاة العَين خاصة. وقال البَغَويّ فيه: إن المال إذا تلف قبل التمكن من الأداء سقطت الزكاة لإضافة الصدقة إلى المال، واستدل به على أنه لا يكفي في الإِسلام الاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله، حتى يضيف إليها الشهادة لمحمد بالرسالة، وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: يصير بالأُولى مسلمًا، ويطالب بالثانية.
وفائدة الخلاف تَظْهر بالحكم بالردة، وقد قال ابن العربي في شرح التِّرمذيّ: تبرأت اليهود في هذه الأزمان من القول بأن العزير ابن الله، وهذا لا يمنع كونه كان موجودًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن ذلك نزل في زمنه عليه الصلاة والسلام، واليهود معه بالمدينة وغيرها، فلم ينقل عن أحد منهم أنه رد ذلك، ولا تعقبه، والظاهر أن القائل بذلك طائفة منهم، لا جميعهم، بدليل أن القائل من النصارى: "إن المسيح ابن الله" طائفة منهم لا جميعهم. فيجوز أن تكون تلك الطائفة قد انقرضت في هذه الأزمان، كما انقلب اعتقاد معظم اليهود عن التشبيه إلى التعطيل، وتحول معتقد النصارى في الابن والأب إلى أنه من الأمور المعنوية لا الحسية. فسبحان مقلب القلوب. قاله في "الفتح".